الهجر الممنوع والهجرُ المشروع الشيخ عبد الله بن عبد الرحيم البخاري حفظه الله.

الهجر الممنوع والهجرُ المشروع الشيخ عبد الله بن عبد الرحيم البخاري حفظه الله.

بالنظر في نصوص الكتاب والسنة فإن الهجر ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: الهجر الممنوع.
والقسم الثاني: الهجرُ المشروع.

القسم الأول: الهجر الممنوع.

مضى أن من أصول أهل السنة الاجتماع والائتلاف ونبذ الفرقة والاختلاف، وأن يكون ذلك على الحق وبالحق وللحق ؛وقد جاءت نصوص كثيرة تؤيد هذا المعنى، وتنهى عن كل ما من سبيله أن يقطع أواصل هذا الأصل؛ ومن ذلك المنع من الهجر لأنه يتنافى مع هذا الأصل المقرر.

والنصوص في الباب كثيرة أنا أذكر بعضا وطرفا وإلا كما قلتُ: لا يُمكن الاستيعاب :

منها ما أخرجه الشيخان في الصحيحين(1)  من حديث أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ : " لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ ، يَلْتَقِيَانِ ، فَيُعْرِضُ هَذَا ، وَيُعْرِضُ هَذَا ، وَخَيْرُهُمُ الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ ".

وأخرج الشیخان في صحيحيهما(2) من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ :"لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ ، يَلْتَقِيَانِ ، فَيُعْرِضُ هَذَا ، وَيُعْرِضُ هَذَا ، وَخَيْرُهُمُ الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ ".ونحوه عن ابن عمر رضي الله عنها(3).

ومر معنا فيما مضى، في أولا حديث أبي هريرة:" لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تناجشوا..."، وفيه (ولا تدابروا).

وأيضا أخرج مسلم في الصحيح(4) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا"،والأحاديث في الباب كثيرة جدا.

أخرج الإمام عبد الله بن المبارك في كتابه الزهد (5) بسند صحيح عن الإمام أبی العالية أنه قال:"سمعت في المُتَصَاِرمَینَ أحادیث کثیرة، کلها شديدة، وإ أهون ما سمعتُ: أنهما لا يزالا نَاكِبِينَ عن الحق ما كانا كذلك".

ووجهَ الإستدلال من هذه الأحادیث ما قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح(6):"وَاسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَامْتَنَعَ مِنْ مُكَالَمَتِهِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ أَثِمَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ نَفْيَ الْحِلِّ يَسْتَلْزِمُ التَّحْرِيمَ ، وَمُرْتَكِبُ الْحَرَامِ آثِمٌ".

وقرر نحوه أيضا الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد(7) والنووي رحمه الله في شرح مسلم(8) وغيرهم من أهل العلم.

القسم الثاني: الهجر المشروع.

تقرر في القسم الأول أن الهجر من أنواعه هجر ممنوع، وبالتأمل في نصوص الوحيين، وكلام الصحابة، وفي فعل السلف، نجد أن ثمةَ نوعا مشروعا من أنواع الهجر، وله مقاصد عظيمة، ولهذا يمكن أن يقال كما قاله غير واحد من أهل العلم كالحافظ ابن حجر(9) وغيره(10)أن القسم الأول من العام المخصوص.

ومن هذا النوع ــ أعني : الهجر المشروع ــ هجر الرجل لزوجته، وهجر الوالد لولده، وهجر أهل البدع، وأهل المعاصي، والمجاهرين بها، ونحو ذلك.

قال الإمام أبو داود في سننه : "النبي صلى الله عليه وآله وسلم هجر بعض نساءه أربعين يوما، وابن عمر هجر ابنا له إلى أن مات"... انتهى كلامه.

قال العلامة ابنُ مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية: " يُسَنُّ هجر من جهر بالمعاصي الفعلية والقولية والإعتقادية..."،ثم عقد فصلاً فقال: "فصلٌ في هجر الكافر والفاسق والمبتدع الداعي إلى بدعة مضلة"(11)،إلى غير ذلك.

من أدلة هذا الباب وهذا القسم ما قاله تعالى في كتابه العزيز:{ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}هود :{113}.

قال العلامة القرطبي رحمه الله في الجامع(12)؛ في معنى الآية، والصحيح في معناها قال: "أنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم، فإن صحبتهم إما كفر أو معصية ؛إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة".

وقال الله تعالى:{ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}الأنعام :(68).

قال الإمام الطبري في تفسيره(13): "في هذه الآية الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع من المبتدعة والفسقة عند خوضهم في باطلهم".

وسترد جملة من الآيات أيضا إضافة إلى هذا إذا ما تكلمنا عن جملة من المقاصد الشرعية من الهجر.

أما من السنة أيها الأحبة فالأدلة كثيرة وأيضا، والأصل فيها حديث الذين خلفوا الثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك، والحديث في الصحيحين(14) من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه، وفيه يقول كعب: "ونهى رسول الله صلى عليه وسلم عَنْ كَلامِنَا أَيُّهَا الثَّلاثَةُ من بين من تخلف، فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ وَتَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ لي فِي نَفْسِي الأَرْضُ؛ فما هي التي أعرف؛ فلبثنا على ذلك خمسين ليلة". والقصة طويلة.

قال الإمام الطبري رحمه الله: " قصة كعب بن مالك أصل في هجران أهل المعاصي"(15).

وقال الإمام البغوي رحمه الله في شرح السنة(16) معلقا عليها :"فيه دليل على أن هجران أهل البدع على التأبيد".

أقول: بوب الإمام البخاري في الصحيح في (كتاب الأدب، باب: ما يجوز من الهجران لمن عصى)(17)، وعلق فيه طرفا من حديث كعب.

قال الحافظ في الفتح(18) :" أَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ بَيَانَ الْهِجْرَانِ الْجَائِزِ ; لِأَنَّ عُمُومَ النَّهْيِ مَخْصُوصٌ بِمَنْ لَمْ يَكُنْ لِهَجْرِهِ سَبَبٌ مَشْرُوعٌ ، فَتَبَيَّنَ هُنَا السَّبَبُ الْمُسَوِّغُ لِلْهَجْرِ وَهُوَ لِمَنْ صَدَرَتْ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ ، فَيَسُوغُ لِمَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا مِنْهُ هَجْرُهُ عَلَيْهَا لِيَكُفَّ عَنْهَا" .

وهذا الأمر قرره غير واحد من العلماء كالخطابي رحمه الله  حيث قال في معالم السنن(19) معلقا  عكى قصة كعب :"تحريم الهجرة بين المسلمين أكثر من ثلاث إنما هو فيما يكون بينهما من قبل عتب و موجدة(20) أو لتقصير يقع في حقوق العشرة و نحوها دون ما كان من ذلك في حقّ الدين، فإن هجرة أهل الأهواء و البدعة دائمة على مرّ الأوقات و الأزمان ما لم تظهر منهم التوبة و الرجوع إلى الحقّ".
وغيره من العلماء(21).

[المصدر: تأملات في مسألة الهجر في ضوء الكتاب والسنة و فهم سلف الأمة لفضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن عبد الرحيم البخاري  حفظه الله].


(1) البخاري (رقم 6077 - فتح)، و مسلم (رقم 2560).
(2) البخاري (رقم 6077 - فتح)، و مسلم (رقم 2559).
(3) مسلم (رقم 2561). 
(4) (رقم 2565).
(5) (رقم 728).
(6) (10/496).
(7) (116/2).
(8) (117/16).
(9) الفتح (497/10).
(10) سیرد بعضهم بحول الله قریبا.
(11) (280/4).
(12) (247/1).
(13) (1/ص 255).
(14) (108/9).
(15) (330/5).
(16) البخاري (رقم 4418 - فتح)، و مسلم (رقم 2769).
(17) نقله عنه الحافظ ابن حجر في الفتح (497/10).
(18) (10/ص 497 - فتح).
(19) (497/10).
(20) (9/5).
(20) أي: غضب.
(21) کالحافظ ابن رجب في ( جامع العلوم والحکم ) (2/ 269)، ومر بعضهم و سیرد بعض آخر.
أحدث أقدم