الترجيح في مسألة أيهما الأفضل الفطر أو الصوم في السفر الشيخ محمد بن عمر بن سالم بازمول حفظه الله

الترجيح في مسألة أيهما الأفضل الفطر أو الصوم في السفر الشيخ محمد بن عمر بن سالم بازمول حفظه الله (مفرغة).

عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إني أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ. فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ} أخرجه مسلم.(1)

وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم : إِنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أأَصُومُ فِي السَّفَرِ ؟ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ ، قَالَ : " إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . 

وفي رواية : " يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ أَسْرُدُ الصَّوْمَ ".(2)

والحديثان يدلان على أن الفطر أفضل في السفر سواء کان الصوم سهلاً عليه في السفر أم لا؟ 

ووجه الدلالة: أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال فی جانب الفطر فی السفر : {هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن} . وقال في جانب الصوم في السفر: {ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه} ؛ فاكتفى بنفي الجناح عمن أحب أن  يصوم في السفر، بينما قال عمن أخذ بالفطر في السفر: {فحسن} ؛ فدل على أن الفطر في السفر أفضل من الصيام فيه (3).

هذا مع قول حمزة رضي الله عنه: {إني أجد في قوة} وقوله: {إني أسرد الصوم} أي إن الصوم لا يشق علي، بل إني كثير الصوم، فأنا معتاد عليه، ومع هذا قرر له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضلية الفطر في السفر على الصوم.

وهذه الفضيلة مطلقة في صوم الفرض والنفل ، ویدل علی ذلك رواية لأبى داود : " ، إِنِّي صَاحِبُ ظَهْرٍ أُعَالِجُهُ أُسَافِرُ عَلَيْهِ وَأَكْرِيهِ ، وَإِنَّهُ رُبَّمَا صَادَفَنِي هَذَا الشَّهْرُ - يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ - وَأَنَا أَجِدُ الْقُوَّةَ وَأَنَا شَابٌّ ، وَأَجِدُنِي أَنْ أَصُومَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ أَنْ أُؤَخِّرَهُ فَيَكُونَ دَيْنًا أَفَأَصُومُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْظَمُ لِأَجْرِي ، أَوْ أُفْطِرُ ؟ قَالَ : " أَيَّ ذَلِكَ شِئْتَ يَا حَمْزَةُ "(4)، ویشهد لهذه الرواية ما جاء فی روایة مسلم : (هی رخصة من الله ) ، فإن هذه الرواية تشعر أنه إنما سأل عن صيام الفرض، وذلك أن الرخصة إنما تطلق فى مقابلة ما هو واجب(5).

وقد قال بهذا : أحمد وابن حبيب وابن الماجشون من أصحاب مالك(6).

وعورض هذا الاستدلال، بقوله تبارك وتعالى: {وأن تصوموا خيراً لكم} فالآية صريحة في أن الصوم أفضل من الفطر(7).

والصوم أفضل لأن به تبرأ الذمة، وما تبرأ به الذمة أفضل.

ولحدیث سلمة من المحبق الهذلي : قال رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {مَنْ كَانَتْ لَهُ حَمُولَةٌ يَأْوِي إِلَى شِبَعٍ فَلْيَصُمْ رَمَضَانَ حيث أدركه} أخرجه أبو داود (8)؛ فالحديث يدل على أن الأفضل الصوم مطلقاً.

وقال بهذا : الحنفية(9) والمالكية(10) والشافعية(11).

قلت : والذي يترجح - والله أعلم وأحكم - أن الفطر للمسافر أفضل مطلقاً، وذلك للأمور التالية:
1 - أن حديث حمزة بن عمرو يدل على فضيلة الفطر في السفر مطلقاً سواء عن صوم رمضان أم غيره، وذلك لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرر فضيلة الفطر علی الصوم في السفر کما سبق، ولم یستفصل منه أن کان عن صیام رمضان أو غيره، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم من المقال، فالحديث دل على فضيلة الفطر مطلقاً سواء في رمضان أو في غيره.

2- ولأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر في حديث حمزة : أن الفطر رخصة، وقد ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه "(12).

- ولأن في الفطر خروجاً من الخلاف ؛ فكان أفضل كالقصر في السفر(13).

إذ لم يختلف العلماء في جواز الفطر في السفر، واختلفوا في جواز الصوم ؛ فمراعاة خلافهم بالفطر في السفر، وهو محل اتفاقهم ؛ أحوط.

4 - ولأن في الفطر الخروج عن عمومات النصوص التي تفيد أن الصوم في السفر ليس من البر، وأن من صام في السفر فهو من العصاة.

إذ هذه النصوص - وإن كان الرّاجح حملها في من يشق عليه السفر - بعمومها تشمل كل من صام في السفر، رغماً من أن بقاءها على العموم مرجوحاً، إذ السفر مظنة المشقة، وهو "قطعة من العذاب"(14).

5 - ولأن المعارضة بالاستدلال المبني على الآية لا يصح ؛ لأن نص الآية مع سياقها : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 183 - 184 ]؛ 

فسیاق الآیة یدل علی أنها نزلت في بیان حال الصوم المنسوخة؛ وذلك أنه كان الحكم في أول نزول صوم رمضان : أن من شاء صامه، ومن شاء أفطره و أطعم مکان کل یوم مسکیناً و کان الصوم أفضل في هذه الحال.

هذا نص الآية، وليس للسفر فيها بدلاً أصلاً ولا للإطعام مدخل في الفطر في السفر أصلا (15).

6 - ولأن المعارضة بالحديث الذي رواه سلمة بن المحبق الهذلي لا تصح ؛ إذ الحديث ضعيف(16).

7 - ولأن قولهم : (الصوم تبرأ معه الذمة) لا يعني أفضلية الصوم مطلقاً، و بیان ذلك :

إننا نقول بجواز الصوم في السفر بدلالة النصوص لكن هذا لا يعني تفضیله علی الفطر، وإلا کان هذا من باب تقدیم القیاس علی النص ، والأصل أن لا اجتهاد مع النص، وقد ثبت النص في الدلالة على أفضلية الفطر مطلقاً وهو حديث حمزة بن عمرو، وتقديم الصوم على الفطر لمجرد أنه به تبرأ الذمة، تقديم للاجتهاد على النص وهذا لا يجوز.

ويؤكد هذا ؛ أن قياسهم منتقض بالمريض فإنه يستحب له الفطر إذا كان الصوم يشق عليه ولا يضره وتلك رخصة الله له؛ فهل يقال صوم المريض أفضل لأنه تبرأ به الذمة؟

وينتقض أيضاً بصوم الأيام المكروه صومها، فهل يقال : صوم الأيام المكروه صومها تبرأ به الذمة فهو أفضل؟(17).

تنبیه :

قد يتوهم بعض الناس أن الفطر في أيامنا هذه في السفر غير جائز،

فيعيبون على من أخذ برخصة الله، أو قد يتوهم آخرون : أن الصيام أولى لسهولة المواصلات ويسرها وتوفرها ؛ فهؤلاء وهؤلاء نلفت انتباههم إلى قول عالم الغیب والشهادة

{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مریم : 9]، 

و قوله :{وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 222]، 

وقوله في الآية التي ذكرت رخصة الإفطار : {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة : 185 ] أي: إن اليسر والسهولة والتسهيل على المسافر أمر يريده الله، وهو من مقاصد الشريعة السمحة .

ناهيك أن الذي شرع الدين هو خالق الزمان والمكان والإنسان فهو أعلم بحاجة الناس وما يصلحهم وما يصلح لهم

قال تعالى : {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك : 14](18).

ويؤكد هذا : أن الرخصة التي جاءت بالفطر في السفر في قوله تعالى : {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة : 184 ] .

وقال : {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }[البقرة: 180 ]. 

فالفطر رخصة لمجرد السفر،  مطلق سفر ، دون قيد السفر الشاق، أو قيد السفر الطويل ؛ فمن قيد السفر بقيد المشقة أو الطول أو نحوهما، فقد قيّد رخصة الله بلا مُقيّد، وفرّق بين ما جمع الله فرقاً لا أصل له لا في كتاب ولا في سنة.

ويرشحه : أن تعلم أن مطلق سفر هو مظنة المشقة سواء معنوية أم مادية ولذلك قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ} متفق عليه(19).

[المصدر: الترجيح في مسائل الصوم والزكاة الشيخ محمد بن عمر بن سالم بازمول حفظه الله].


(1) أخرجه مسلم في كتاب الصيام باب التخيير في الصوم والفطر في السفر حديث رقم (1121). 
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصوم باب الصوم في السفر والإفطار حديث رقم (1942 ، 1943)، و مسلم من کتاب الصیام باب التخییر فی الصوم والفطر فی السفر حدیث رقم (1121). 
انظر جامع الاصول (397/6 ـ 402).
(3) المحلى (6/ 248).
(4) أخرجها أبو داود من کتاب الصوم في باب الصوم في السفر حدیث رقم (2403).
والحدیث ضعفه الألبانی فی الإرواء (4/ 61- 62) لوجود روایین مجهولین فی السند، لكن محل الشاهد فيه يشهد له ما أشرت إليه فى الأعلى، وبه يترقى إلى مرتبة الحسن لغيره. والله أعلم.
(5) فتح الباري ( 4/ 180).
(6) الإفصاح (1/ 247)، الإنصاف (287/3)، الروض الندي ص192، الفواکه الدوانی (1/364).
(7) المحلی (247/6)، الفواکه الدواني (364/1).
(8) حدیث ضعیف. 
أخرجه أبو داود فی کتاب الصوم باب فیمن اختار الصیام حدیث رقم (2410). 
والحدیث ضعفه ابن حزم في المحلی (6/ 249)، و ضعفه محقق جامع الأصول (6/ 414). في السند : عبد الصمد بن حبيب ضعيف ووالده مجهول.
(9) الاختیار (134/1)، فتح القدیر (351/2)، حاشیة ابن عابدین (117/2). 
(10) الکافی ص 121 الفواکه الدوانی (1/ 364)، بلغة السالك (243/1).
(11) التنبیه ص 66 روضة الطالبین (370/2)، المجموع (6/ 265). 
(12) حدیث صحيح عن ابن عباس . 
أخرجه ابن حبان في صحیحه (الإحسان 2/ 69 حدیث رقم 354)، والطبراني في المعجم الکبیر (11/ 323 حدیث رقم 11880) و البزار في مسنده (کشف الأستار 469/1 حدیث رقم 990).
و الحدیث قال الهیثمي في مجمع الزوائد (3/ 162): «رواه الطبراني في الکبیر والبزار ورجال البزار ثقات وكذلك رجال الطبراني) اهـ. 
والحديث صححه محقق الإحسان . وفي الباب عن عمر وابن مسعود بنحوه.
(13) المغنی (3/ 150).
(14) اقتباس من حديث صحيح عن أبي هريرة أخرجه البخاري في مواضع منها في كتاب العمرة باب السفر قطعة من العذاب حديث رقم (1804)، ومسلم في کتاب الامارة باب السفر قطعة من العذاب حدیث رقم (1927) .
وانظر الاحسان (6 /425) . 
(15) المحلی (249/6). 
(16) كما أشرت في الهامش عند تخريجه قبل قليل. 
(17) المغنی (3/150).
(18) صفة صوم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ص 45. 
(19) حدیث صحیح . سبق تخریجه و اللفظ هنا من صحیح ابن حبان الإحسان (6/ 425) حدیث رقم (2708) عن أبي هریرة.
أول مدونة سلفية متخصصة في جمع تفريغات الدروس والمحاضرات والخطب وغيرها التي تخدم المنهج السلفي، والهدف من ذلك تقريب العلم الشرعي الصحيح لطلابه..
إشعار : كل حقوق التفريغ محفوظة للمدونة.
أحدث أقدم