مسألة : إنزال المني هل يفطر؟ الشيخ محمد بن عمر بن سالم بازمول حفظه الله (مفرغة).
عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { قَالَ اللَّهُ : كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ...} الحدیث.
وفي رواية عند البخاري : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الصِّيَامُ جُنَّةٌ, فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا) أخرجه الشيخان.
وفي رواية عند ابن خزيمة : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ، قَالَ اللَّهُ : إِلا الصِّيَامَ ، فَهُوَ لِي ، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ، يَدَعُ الطَّعَامَ مِنْ أَجْلِي ، وَيَدَعُ الشَّرَابَ مِنْ أَجْلِي ، وَيَدَعُ لَذَّتَهُ مِنْ أَجْلِي ، وَيَدَعُ زَوْجَتَهُ مِنْ أَجْلِي ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ : فَرْحَةٌ حِينَ يُفْطِرُ ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ " .
الحديث دليل على أن إنزال المني يفسد الصوم لأنه مصحوب - عادة - بشهوة ودفق، سواء أنزل في مداعبة الزوجة، أم أنزل بالاستمناء، أم أنزل بالفكر والنظر.
ووجه الاستدلال : أن قوله في الحدیث: {یدع لذته من أجلي}و {يترك}{وشهوته من أجلي} يشمل جميع أفراد اللذة والشهوة ؛ لأن كلمة (شهوته) (لذته) مفرد مضاف ، وهو من صيغ العموم .
فالصائم مطالب بترك جميع لذته وشهوته، والمراد هنا شهوة الفرج ، وهي تشمل إنزال المني على أي صورة؛ فإذا أنزل المني بطل صومه.
وأسعد الناس بالعمل بهذا الحديث هو الإمام مالك والإمام أحمد رحمهما الله تعالی .
وبیان ذلك کما یلي :
عند الحنفية: {إذا فكر الصائم فأنزل، أو لمس فأمذى أو نظر فأنزل لم يفسد صومه ولا قضاء عليه.
أما إذا لمس أو قبل فأنزل، أو استمنى فأنزل فقد أبطل صومه وعليه القضاء، ولا كفارة عليه}.
عند المالكية:{ إذا فكر الصائم فأنزل، أو لمس فأمذى أو نظر فأنزل، فسد صومه وعليه القضاء .
ویبطل صومه ویلزمه القضاء و الکفارة (کفارة المجامع في نهار رمضان) إذا كرر النظر فأنزل، أو لمس أو قبل فأنزل، أو استمنى فأنزل}.
عند الشافعية :{لا يفطر إذا ذكر فأنزل، أو لمس فأمذى أو نظر فأنزل، أو كرر النظر فأنزل.
ويفطر ويلزمه القضاء، إذا لمس أو قبل فأنزل، أو استمنى فأنزل}(4).
عند الحنابلة : يفطر ويلزمه القضاء إذا لمس فأمذى ، أو نظر فأنزل، أو كرر النظر فأنزل، أو لمس أو قبل فأنزل، أو استمنى فأنزل .
أمّا إذا فكر فأنزل، فصومه صحیح}.(5)
وخالف في ذلك : الإمام البخاري رحمه الله ، والإمام ابن حزم رحمه الله ، حيث قال بعد تقريره استحباب القبلة والمباشرة للصائم : (وَإِذْ قَدْ صَحَّ أَنَّ الْقُبْلَةَ وَالْمُبَاشَرَةَ : مُسْتَحَبَّتَانِ فِي الصَّوْمِ وَأَنَّهُ لَمْ يُنْهَ الصَّائِمُ فِي امْرَأَتِهِ عَنْ شَيْءٍ إلَّا الْجِمَاعَ - : فَسَوَاءٌ تَعَمَّدَ الْإِمْنَاءَ فِي الْمُبَاشَرَةِ أَوْ لَمْ يَتَعَمَّدْ كُلُّ ذَلِكَ مُبَاحٌ لَا كَرَاهَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ; إذْ لَمْ يَأْتِ بِكَرَاهِيَتِهِ نَصٌّ وَلَا وَإِجْمَاعٌ ، فَكَيْف إبْطَالُ الصَّوْمِ بِهِ ، فَكَيْف أَنْ تُشْرَعَ فِيهِ كَفَّارَةٌ ؟)(6) اهـ.
أما البخاري رحمه الله فقد ترجم : {باب المباشرة للصائم . وقالت عائشة رضي الله عنها : يحرم عليه فرجها) وساق في آخر الباب الأثر التالي: "وقال جابر بن زيد: إن نظر فأمنى يتم صومه }(7).
وبوب بعده :''باب القبلة للصائم''(8).
{فأفاد فيهما إباحة الاستمتاع للصائم عن طريق المباشرة والتقبيل، إذا كان متملكاً نفسه بحيث لا يفضي استمتاعه إلى الجماع فلا يؤثر هذا الاستمتاع على صومه وإن أمنی}(9).
قلت : والذي يترجح عندي ، والعلم عند الله : بطلان الصوم بإنزال المني بشهوة متعمداً.
وذلك للأمور التالية :
1 - دلالة الحديث السابق ظاهرة في ذلك. ولا يصح الاستدلال بجواز القبلة والمباشرة للصائم على عدم فساد الصوم بإنزال المني ؛ لأن النص ورد باستثناء شهوة القبلة والمباشرة للصائم، فيبقى ما عداها من الشهوات علی التحریم (أعني : الشهوات المتعلقة بالفرج).
2 - ولأن جواز القبلة والمباشرة مشروط بملك الأرب .
عن عائشة رضي الله عنها قالت : «كان النبي صلى الله عليه وسلم یقبل ویباشر وهو صائم ، وکان أملککم لإربه) متفق عليه"(10).
ووجه الدلالة : أن السيدة عائشة رضي الله عنها أشارت إلى أن النظر في حكم القبلة للصائم إنما هو بحسب التأثر بالمباشرة والتقبيل. ولذلك قالت في روایة للحدیث: «وأیکم یمللک إربه (11) کم کان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه؟(12).
قال المازري (ت 536هـ) رحمه الله : (والذي أشارت إليه عائشة رضي الله عنها في الحديث المتقدم إليه يرجع فقه المسألة؛ لأنها أشارت إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم يقف عند القبلة، ويأمن على نفسه أن يقع فيما سواه بخلاف غيره من أمته ؛ فينبغي أن تعتبر حالة المقبل؛ فإن كانت القبلة تثير من المقبّل الإنزال كانت محرمة عليه ؛ لأن الإنزال المكتسب يمنع منه الصائم، فكذلك ما أوقع فيه وأدى إليه ؛ وإن كان إنما يكون عنها المذي أوجب الکف عن القبلة، ومن رأی أن القضاء منه مستحب استحب الکف . وإن كانت القبلة لا تؤدي إلى شيء مما ذكر ولا تحرك لذة فلا معنى للمنع منها إلا على طريقة من يحمي الذريعة ؛ فيكون للنهي عن ذلك وجه»(13) اه.
قلت : فجواز القبلة والمباشرة مشروط بملك الأرب ؛ إذ الحد الذي انتهى إليه الرسول صلى الله عليه وسلم القبلة والمباشرة، وكان يملك إربه ويقف عند ذلك، فلا يجوز أن يتجاوز فى القبلة والمباشرة ذلك(14)، ومن تجاوزه فقد أهدر العموم في قوله: «وشهوته».
3 - ولأن الآثار التي استدل بها على أن الإنزال لا يفطر الصائم ؛ دلالتها غير مسلمة، فمن ذلك :
عن حکیم بن عقال أنه قال: «سألت عائشة: مایحرم علی من امرأتي وأنا صائم؟ قالت: فرجها) أخرجه الطحاوي(15).
عن مسروق: سألت عائشة: ما يحل للرجل من امرأته صائماً؟ قالت: كل شيء إلا الجماع) أخرجه عبد الرزاق(16).
قلت : إذا تأملت هذين الأثرين تجد ما يلى :
أ - غايتها إباحة الاستمتاع بالزوجة وبجسدها ما لم يصل إلى الجماع .
ب - إنهما إنما ذكرا ما يجوز للرجل من امرأته وما يحرم عليه منها، وليس فيهما ما يجوز للرجل أن يصل إليه في نفسه.
يوضح ذلك ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (لا بأس بها إذا لم يكن معها غيرها يعني القبلة) أخرجه عبد الرزاق(17).
وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أعرابي أتاه فسأله فرخص له في القبلة والمباشرة ووضع اليد ما لم تعد إلى غيره) أخرجه ابن أبي شیبة(18).
فانظر الی قوله: «اذا لم یکن معاها غیرها» والی قوله: «ما لم تعد إلى غيره» ؛ تجده يدل على أن حد الجواز هو القبلة والمباشرة فإن تجاوز ذلك إلى القبلة أو المباشرة مع الإنزال فقد تجاوز دائرة المباح إلى المحرم، فالإنزال محرم على الصائم فإن أنزل متعمداً بطل صومه.
و لقد کان فی قوله فی الحدیث: «یترك طعامه و شرابه وشهوته» وفی الرواية الأخرى : (یدع الطعام من أجلي ويدع الشراب من أجلي، ويدع لذته من أجلي، ویدع زوجته من أجلي) لقد كان في هذا دلیل علی تحریم القبلة للصائم، كما قال محمد بن الحنفية: (إنما الصوم من الشهوة والقبلة من الشهوة) أخرجه ابن أبي شيبة(19).
فلولا ما ورد من الأدلة على جواز القبلة والمباشرة لكانتا محرمتين ؛ وعليه فإن الواجب أن يوقف على مقدار ما جاء فى الرخصة، ولا يزاد عليه غيره .
4 - يرشح ذلك : إن النص العام إذا جاء ما يخصص بعض أفراده، فإنه یکتفی في التخصیص علی المحل الذی جاء فی المخصص و لا یزاد عليه ؛ لأن في الزيادة عليه إهدار لدلالة النص العام.
وهنا النص عام في تحریم الشهوة المتعلقة بالفرج علی الصائم ، جاء النص ہتخصیصں شهوة القبلة وشهوة المباشرة، فالواجب الاقتصار عليهما ولا يزاد عليهما الإنزال لأن فى ذلك إهدار الدلالة النص.
وهذا هو ما أشار إليه ابن عباس رضي الله عنهما في الأثرين السابقين .
5 - أمّا ما جاء عن جابر بن زید أنه سئل عن رجل نظر الی امرأته في رمضان فأمنى من شهوتها هل يفطر؟ قال: (لا، ويتم صومه ) أخرجه ابن أبي شيبة(20).
فهذا الأثر إنما فيه عن رجل نظر إلى امرأته، وحصل له بمجرد النظرة الإنزال، فهذا لم يكرر النظر، ولم يتعمّد الإنزال لكن هكذا حصل معه فهذا لم یفطر و صومه صحیح و لا قضاء علیه و هکذا نقول ؟ لأننا قيدنا الإنزال بكونه متعمداً وهذا لم يتعمّد .
فإن صح التوجيه الذي ذكرته، وإلا فغايته أنه اجتهاد لجابر بن زيد ؛ لا حجة شرعية فيه والله الموفق .
تنـــبيــه :
هذا التوجيه الذي ذكرته، يدل على أن عدّ البخاري ممن يقول : بأن الإنزال لا يفطر، فيه نظر؛ إذ إيراده لهذا الأثر محتمل لما ذكرت إن صح والله أعلم.
تنبیه : مع ترجیحنا فساد صوم من أنزل متعمداً؛ لا نقول أن عليه الكفارة (كفارة المجامع في نهار رمضان)، فقط عليه القضاء ؛ إذ الكفارة لم تثبت إلا في المجامع، وقياس من أنزل المني عليه قياس مع الفارق .
فائدة : إذ علمت أن المدار هو الشهوة، فالمذي والودي لا يفسدان الصوم ؛ لأن نزولهما لا يكون مصحوباً بشهوة ولذة ودفق، على خلاف المني.
والله أعلم.
[المصدر: الترجيح في مسائل الصوم والزكاة الشيخ محمد بن عمر بن سالم بازمول حفظه الله].
(وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه بإسناد صحيح حدیث رقم (1897).
و انظر فتح الباري (4/107).
(2) الاختیار (131/1 - 133)، شرح فتح القدیر (331/2).
(3) الکافی ص 124، الفواکه الدواني (369/1)، مسالک الدلالة ص 115.
(4) الحاوی (3/ 435 ، 437 - 441) ، المهذب (1/ 246).
(5)\( الإفصاح ) (239/1)، المغني (112/3)، المبدع (33/3) ، الروض الندي ص 163.
(6) المحلی (9/ 213).
(7) صحيح البخاري (مع فتح الباري) (4 / 149).
(8)ما سبق (4/ 152).
(9) فقه الإمام البخاري (الصيام) ص 69.
(10) أخرجه البخاري في کتاب الصوم باب المباشرة للصائم حدیث رقم (1927)، و مسلم من کتاب الصیام باب بیان أن القبلة في الصوم لیست محرمة علی من لم تحرك شهوته حدیث رقم (1106).
(11) قال الخطابي في (معالم السنن » (262/3) : « هذا یروی علی و جهین : «أرب» مفتوحة الألف والراء، و «إرب» مكسورة الألف ساكنة الراء، ومعناهما واحد، وهو حاجة النفس ووطرها، يقال : لفلان عند فلان أرب، وإرب، وإربة، ومأربة أي حاجة. والأرب أيضاً: العضو) اهـ.
(12) أخرجها مسلم في صحيحه في كتاب الصيام باب بيان أن القبلة في الصوم لیست محرمة علی من لم تحرك شهوته حدیث رقم (1106).
(13) المعلم بفوائد مسلم (33/2 - 3). و انظر فتح الباري (4 / 152).
(14) شرح مسلم للنووی (216/7).
(15) اسناده صحیح . أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (95/2). وصحح إسناده العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة أثناء كلامه على فقه الحدیث رقم (221).
(16) إسناده صحيح. أخرجه عبد الرزاق فی المصنف ( 4/ 190 تحت رقم 8439). وصحح الألباني إسناده في السلسلة الصحيحة أثناء كلامه على فقه الحديث رقم (221)، و کذا في «تمام المنة» ص 419.
(17) إسناده صحیح .
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (4/ 184 تحت رقم 8415).
(18) إسناده صحیح .
أخرجه ابن أبی شیبة فی المصنف (63/3). وصحح العلامة الألباني سنده على شرط البخاري في السلسلة الصحيحة أثناء کلامه علی فقه الحدیث رقم (221).
(19) إسناده حسن . أخرجه ابن أبي شیبة فی المصنف (62/3).
(20) اسناده حسن . أخرجه ابن أبي شیبة (70/3)، و علقه البخاري في صحیحه في کتاب الصوم باب المباشرة للصائم . وانظر تغليق التعليق (3/ 150).
أول مدونة سلفية متخصصة في جمع تفريغات الدروس والمحاضرات والخطب وغيرها التي تخدم المنهج السلفي، والهدف من ذلك تقريب العلم الشرعي الصحيح لطلابه..
إشعار : كل حقوق التفريغ محفوظة للمدونة.