الترجيح في مسألة إذا مضى عام ودخل رمضان ولم يتمكن المسلم من القضاء الشيخ محمد بن عمر بن سالم بازمول حفظه الله (مفرغة).

مسألة: إذا مضى عام ودخل رمضان ولم يتمكن المسلم من القضاء ؟ الشيخ محمد بن عمر بن سالم بازمول حفظه الله (مفرغة).

قال الله تبارك وتعالى : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة : 185 ].

عَنْ مُعَاذَةَ قَالَتْ { سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَقلت : مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ ، وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ ؟ فَقَالَتْ : أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ ؟ فَقُلْتُ : لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ ، وَلَكِنِّي أَسْأَلُ . فَقَالَتْ : كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ ، فَنُؤَمَّرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ ، وَلَا نُؤَمَّرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ } . متفق عليه.(1)

وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : ( كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلَّا فِي شَعْبَانَ ) متفق عليه.(2)

ظاهر هذه النصوص : أن من أفطر أياماً من رمضان عليه قضاؤها، فإن أخرها حتی جاء رمضان آخر، فانه يصوم رمضان الذي ورد علیه کما أمره الله تعالى، فإذا أفطر في أوّل شوال قضى الأيام التي كانت عليه

والظاهر أنه لا يلزمه غير القضاء سواء أخر القضاء عمداً أو لعذر أو لنسيان

ووجه الدلالة أن هذه النصوص أمرت بالقضاء فقط، ولم تحد له وقتاً بعينه، فلو كان واجباً مع القضاء أمرٌ آخر لبُيّن، إذ المقام مقام بيان. 

وقال بهذا: ابن مسعود ، و ابراهیم النخعي، والحسن وطاوس و حماد بن أبي سلیمان(3). وهو مذهب أبي حنيفة(4)، و البخاري فی صحیحه(5) ، وقول ابن حزم من الظاهرية(6) ، واختاره ابن الشوکاني(7) .

واعترض على هذا الاستدلال بقوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) البقرة: 184 ؛ إذ ظاهر الآية وجوب الفدية على كل مطيق، إلا ما قام الدليل على أنها ليست بواجبة(8)؛ فيجب على هذا إذا أخر قضاء رمضان حتى جاء رمضان آخر : أن يقضي ويطعم ، وذلك إذا أخر القضاء لغير عذر.
وهذا مذهب مالك(9) والثوري و الاوزاعی والشافعی(10) وأحمد(11) وإسحاق

وهو قول ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة ومجاهد وسعيد بن جبير (12).

قلت : والذي يترجح - عندي - أن من أخر قضاء رمضان حتى دخل عليه رمضان آخر؛ لا يلزمه إلا القضاء، سواء أخر القضاء بتفريط أم بدون تفريط . وذلك للأمور التالية :

1 - لأن ظاهر قوله تعالى : (فعدة من أيام أخر) أن القضاء واجب موسع ، لا حد له ، ولا دلیل علی تحديد آخر وقت القضاء .

2 - ولأن قوله تعالى: (فعدة من أيام أخر) ليس فيه غير القضاء، والزيادة على هذا زيادة على الشرع وأمر بما لم يأمر به، ولا صارف للآية عن ظاهرها.

3 - ولأن قوله تعالى : (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسکین﴾ بعد التسلیم بعدم النسخ، و أن حکم الآية باق في حق الرجل الکبیر والمرأة العجوز والحامل والمرضع ؛ بعد التسليم بذلك أقول: إن حكم الآية إنما هو في حق من يستطيع الصوم ولكن يشق عليه، فهذا عليه الفدية فقط. بينما كلامنا وبحثنا في من عليه قضاء أجله وهو يستطيع ولا يشق عليه، وفرق بين الحالين.

4 - ويؤكد ضعف الاستدلال بالآية: أنه يلزمهم من قولهم واستدلالهم بالآية إيجاب الفدية على كل من عليه قضاء سواء جاء رمضان آخر عليه أم لا. فإن قالوا: دل الدليل على عدم وجوب الفدية في حق من قضی قبل دخول رمضان التالي ! فالجواب : دلیلکم هذا، هو دلیلنا .

5 - ولأن الاستدلال بحديث عائشة رضي الله عنها أنها كانت تؤخر قضاء رمضان إلى شعبان، الاستدلال بهذا الحديث على أن من قضى رمضان قبل دخول رمضان الذی یلیه لا کفارة علیه، و من قضاه بعده علیه الکفارة، وأن آخر مدّة القضاء بدون كفارة ما لم يدخل رمضان !! هذا الاستدلال لا يصح ! لأن الحديث لا دلالة فيه على أن القضاء مؤقت بما بين رمضانين ؛ ولأن الحديث ظاهر في أن ذلك وقع اتفاقاً لحاجة الرسول صلى الله عليه وسلم (13).

نعم في الحديث ما يشعر بالمبادرة إلى القضاء وتأكدها إذا ضاق وقت القدرة عن غيره.

تنبيه :

مع قولنا : إن المسلم إذا أخر قضاء رمضان حتى جاء رمضان الثاني لا يجب عليه غير القضاء ؛ مع قولنا ذلك، نقول : إلا إنه قد أساء في تأخیر القضاء عمداً بلا عذر، وفرط فيه إذ قدر عليه ولم يبادر إليه ؛ لأن المسارعة إلى الطاعة مما أمر الله به. قال تعالى : (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) آل عمران (133).(14)

قال ابن حجر رحمة الله علیه : «وفی الحدیث (یعنی : حدیث عائشة هذا رضي الله عنها) دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ قَضَاءِ رَمَضَانَ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ كَمَا بَيَّنَّاهُ مُدْرَجَةٌ (يعني : ما جاء في رواية من أن تأخیرها القضاء إلى شعبان إنما كان لمانع الشغل بالنبي صلى الله عليه وسلم)، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَرْفُوعَةً لَكَانَ الْجَوَازُ مُقَيَّدًا بِالضَّرُورَةِ ؛ لِأَنَّ لِلْحَدِيثِ حُكْمَ الرَّفْعِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ اطِّلَاعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ مَعَ تَوَفُّرِ دَوَاعِي أَزْوَاجِهِ عَلَى السُّؤَالِ مِنْهُ عَنْ أَمْرِ الشَّرْعِ ، فَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا لَمْ تُوَاظِبْ عَائِشَةُ عَلَيْهِ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ حِرْصِهَا عَلَى ذَلِكَ فِي شَعْبَانَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْقَضَاءِ حَتَّى يَدْخُلَ رَمَضَانُ آخَرُ . وَأَمَّا الْإِطْعَامُ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُثْبِتُهُ وَلَا يَنْفِيهِ"(15) اهـ.

[المصدرالترجيح في مسائل الصوم والزكاة الشيخ محمد بن عمر بن سالم بازمول حفظه الله].


(1) أخرجه البخاري في كتاب الحيض باب لا تقضي الحائض الصلاة، حديث رقم (321)، دون ذکر الصوم ، وأخرجه مسلم في کتاب الحیض باب وجوب قضاء الصوم علی الحائضں دون الصلاۃ حدیٹ رقم (335).
انظر جامع الأصول (357/7)
(2) آخرجه البخاري في کتاب الصوم باب متی یقضی قضاء رمضان؟ حدیث رقم (1900)، و مسلم في کتاب الصیام باب قضاء رمضان في شعبان حدیث رقم (1146 )
وانظر جامع الاصول (6/ 410 -416).
(3) المحلی (6/ 260).
(4) بدائع الصنائع (104/2 - 105) ، الاختیار (1/ 135 - 139).
(5) فتح الباري (4/188 - 189، 190)، فقه الإمام البخاري (الصیام) ص 135.
(6) المحلی (6/ 260).
(7) السموط الذهبیة ص 120.
(8) الحاوی الکبیر (451/3- 542).
(9) الکافی ص 122، الفواکه الدوانی (1/ 360).
(10) الحاوی الکبیر (451/3- 542)، المهذب (252/1).
(11) الانصاف (333/2 - 334)، الروض الندی ص 166.
(12) اختلاف العلماء ص 51، المغنی (3/ 145).
(13) العنایة علی الهدایة (2/ 335).
(14) المحلی (6/ 260).
(15) فتح الباري (4/ 191).
أول مدونة سلفية متخصصة في جمع تفريغات الدروس والمحاضرات والخطب وغيرها التي تخدم المنهج السلفي، والهدف من ذلك تقريب العلم الشرعي الصحيح لطلابه..
إشعار : كل حقوق التفريغ محفوظة للمدونة.
أحدث أقدم