الإعتكاف الشيخ أحمد بن يحي النجمي رحمه الله

الإعتكاف الشيخ أحمد بن يحي النجمي رحمه الله (مفرغة).

الحديث الأول : عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده .

وفي لفظ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان فإذا صلى الغداة جاء مكانه الذي اعتكف فيه.

موضوع الحديث :الاعتكاف.

المفردات :

الاعتكاف : هو الاحتباس واللزوم للشيء فمن الاحتباس قول الله تعالى ( وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح : 25 ] أي محبوساً ومن اللزوم قول الله تعالى عن بني إسرائيل (قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ) [طه : 91 ] وفي هذه الآية إخبار منهم بأنهم سيلازمون عبادة العجل إلى أن يرجع إليهم موسى عليه السلام .

أما معنى الاعتكاف شرعاً : فهو لزوم المسجد بقصد العبادة فيه .

قولها حتى توفاه الله عز وجل : أي حتى مات .

ثم اعتكف أزواجه بعده : أي بعد موته .

قولها فإذا صلى الغداة جاء مكانه الذي اعتكف فيه : التعبير باعتكف هنا يدل على أنه كان بعد صلاة الغداة يدخل معتكفه لينفرد فيه لأن لفظ الماضي دال على ذلك .

المعنى الإجمالي :

تخبر عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان إلتماساً لليلة القدر واجتهاداً في العبادة وأنه لازم ذلك حتى توفاه الله تعالى وأن أزواجه لازمن ذلك أيضاً بعد وفاته وأنه كان إذا صلى الفجر جاء مكانه الذي اعتكف وانفرد فيه للعبادة .

فقه الحديث :

أولاً: يؤخذ منه مشروعية الاعتكاف في الجملة وهو أمر متفق عليه لكن اختلفوا من ذلك في مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا هل من شرط الاعتكاف أن يكون في المسجد الذي تصلى فيه الجمعة والجماعة أم ليس من شرطه ذلك.

فذهب الجمهور إلى أن من شرط الاعتكاف أن يكون في مسجد لكن خصصه جماعة قليلة بمساجد الأنبياء الثلاثة وهي مسجد مكة ومسجد المدينة ومسجد بيت المقدس وخالفهم الجمهور فقالوا بجوازه في كل مسجد تصلى فيه الجمعة والجماعة واشترط بعضهم أن يكون في مسجد فيه جمعة وأجاز بعضهم الاعتكاف في مسجد جماعة وأجاز قوم للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها وهذا القول ضعيف والذي يترجح لي أنه إن دخل في اعتكاف الرجل الجمعة وجب في مسجد تقام فيه الجمعة وإن لم تدخل الجمعة في اعتكافه جاز في مسجد جماعة .

المسألة الثانية : اختلفوا في جواز الاعتكاف للمرأة فذهب قوم إلى جوازه إذا أمنت الفتنة وذهب قوم إلى جوازه بشرط أن تكون المرأة مع زوجها ولكن هذا القول يرده ما ورد في الرواية الثانية من قولها ثم اعتكف أزواجه بعده والذي يترجح لي أن المرأة تمنع من الاعتكاف في المسجد وحدها إلا أن يكون معها محرم وبشرط ألا تضيق على الرجال المصلين في المسجد لأن المرأة مأمورة بالاحتجاب وعدم التبرج واعتكافها في المسجد وحدها أو مع محرمها أو زوجها مع الإضرار بالرجال المصلين في المسجد ومضايقتهم أن ذلك يختلف عما أمرت به ويعرضها للفتنة

أما زوجات النبي صلى الله عليه وسلم فلمكانتهن في المجتمع الذي كن فيه انتفت الفتنة في حقهن لأنهن كلهن أمهات للمؤمنين والشرط الثالث أن تكون متسترة حتى لا يؤدي ذلك إلى افتتانها أو الافتتان بها .

المسألة الثالثة: اختلف أهل العلم هل من شرط الاعتكاف أن يتقدمه صوم أو يكون معه صوم فذهب قوم إلى أنه لا يصح الاعتكاف إلا بالصوم وذهب قوم إلى أنه ليس من شرط الاعتكاف الصوم بدليل أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نذر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يوفي بنذره والليل ليس محلاً للصوم فدل على أنه لا يشترط له الصوم .

المسألة الرابعة:اختلفوا في جواز قطع الاعتكاف إذا أراد قطعه بعد أن يدخل فيه فالجمهور أجازوه من دون إيجاب للقضاء وذهب جماعة إلى أنه يجوز بنية القضاء بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع اعتكافه بعد أن بدأ فيه ثم اعتكف العشر الأول من شوال. إلا أنه يعكر عليه كون النبي صلى الله عليه وسلم قضى اعتكاف العشر الذي تركه والله أعلم .

المسألة الخامسة : اختلف أهل العلم أيضاً في دخول المعتكف متى يكون فذهب الجمهور إلى أن من أراد أن يعتكف العشر يجب عليه أن يدخل معتكفه قبل غروب الشمس من يوم العشرين لأن الليالي هي سابقة للأيام ومحسوبة منها وبذلك أخذ فقهاء الفتوى وذهب قوم إلى أن المعتكف يدخل معتكفه بعد صلاة الفجر من يوم إحدى وعشرين كما في رواية عائشة فإذا صلى الغداة جاء مكانه الذي اعتكف فيه إلا أن التعبير باعتكف الذي هو صيغة الماضي يدل على تأويل من قال أن المراد أنه يدخل معتكفه الذي اعتكف فيه لينفرد به فهذه العبارة لا تدل على أن دخوله هذا هو الدخول الأول في الاعتكاف وفرق بعضهم بين من نوى شهراً وبين من نوى يوماً والاحتمال وارد وبالله التوفيق.

المسألة السادسة :اختلف أهل العلم هل يجوز للمعتكف أن يعود المريض ويتبع الجنازة أم لا يجوز والظاهر عدم الجواز لهذه الأشياء إلا إذا اشترط المعتكف ذلك أما إذا لم يشترط فإن ذلك لا يجوز له بدليل قول عائشة رضي الله عنها وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان وقولها إني لأدخل البيت والمريض فيه وأنا معتكفه فلا أسأل عنه إلا وأنا مارة .

المسألة السابعة :قال الله تعالى ( وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ) [البقرة : 187] وقد اختلف أهل العلم في المباشرة المقصودة في الآية هل هي الجماع فقط أو أنه يلتحق بالجماع غيره من أنواع التلذذ والظاهر أن الآية شاملة للجماع ومقدماته وقد ذكر بعض أهل العلم أن المسلمين كانوا في أول الإسلام الواحد منهم يذهب إلى بيته وهو معتكف فإذا لقي امرأته جامعها فنهاهم الله عز وجل عن ذلك وأخبر أن المباشرة تحرم بالاعتكاف بأي لون من ألوانها أي سواء كان جماعاً أو قبلة أوضمة وما إلى ذلك .

ثانياً : ويؤخذ من حديث عائشة رضي الله عنها هذا أي من قولها كان يعتكف في العشر الأواخر أن هذا الأمر تكرر من النبي صلى الله عليه وسلم حتى صار عادة مستمرة ولهذا قالت حتى توفاه الله عز وجل .

ثالثاً : ويؤخذ من قولها أيضاً ثم اعتكف أزواجه من بعده جواز الاعتكاف للنساء وقد تقدم الكلام على ذلك بما يغني عن إعادته .

رابعاً : يؤخذ من قولها في العشر الأواخر من رمضان أن الاعتكاف في رمضان سنة مؤكدة وفي غير رمضان سنة مستحبة وبالله التوفيق .

الحديث الثاني :عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت ترجل النبي صلى الله عليه وسلم وهي حائض وهو معتكف في المسجد وهي في حجرتها يناولها رأسه

وفي رواية وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان

وفي رواية : أن عائشة رضي الله عنها قالت إن كنت لأدخل البيت للحاجة والمريض فيه فما أسأل عنه إلا وأنا مارة .

موضوع الحديث : أن الاعتكاف لا يبطل بخروج بعض البدن.

المفردات :

ترجل : الترجيل تسريح الشعر والتسريح يكون باليد أحياناً ويكون بالمشط أحياناً أخرى .

وهي حائض : الواو واو الحال وجملة وهي حائض جملة حالية أي والحال أنها في الحيض وكذلك وهو معتكف أيضاً الجملة حالية.

قوله وهي في حجرتها :أي في المكان المحتجر لها وهو دارها لكونه يجاور المسجد.

قوله يناولها رأسه : معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم يدلي إليها رأسه من الطاقة حتى ترجله أو تغسله أو تسرحه .

وقولها في الرواية الأخرى وكان لا يدخل البيت : أي في حال اعتكافه .

إلا لحاجة الإنسان : مستثنى وهو كناية عن المخرج للتبرز .

قولها إن كنت لأدخل البيت للحاجة : المقصود بالحاجة هنا ما كني عنه أولا .

والمريض فيه : الجملة حالية أي والحال أن المريض فيه .

فما أسال عنه : ما هنا نافية والجملة تساوي فلا أسأل عنه إلا وأنا مارة .

المعنى الإجمالي :

تخبر عائشة رضي الله عنها أنها كانت تخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض فترجل رأسه بحيث أنه يخرج رأسه إليها فترجله وهو في المسجد وهي في دارها لأنه ممنوع عليه الخروج من المسجد بالاعتكاف وممنوع عليها الدخول للمسجد بالحيض وتخبر أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما يكون معتكفاً لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان وهو التبرز وأنها كانت تمر لحاجتها فلا تسال عن المريض إلا وهي مارة بمعنى أنها لا تتشاغل بالدخول عليه والزيارة له وبالله التوفيق.

فقه الحديث :

أولاً:يؤخذ من هذا الحديث أن المعتكف لا يبطل اعتكافه بخروج بعض بدنه .

ثانياً :قيس عليه ما إذا كان العبد قد نذر ألا يدخل مكاناً ما فأدخل فيه بعض بدنه أنه لا يترتب عليه حنث ولا تجب عليه كفارة .

ثالثاً :أن الاعتكاف موجب لعدم الخروج من المسجد وأنه خروج بعضه لا يترتب عليه ما يترتب على خروج جميعه .

رابعاً :يؤخذ منه سنية اتخاذ الشعر للمسلم لكنه بشرط ألا يكون ذلك تشبهاً بغير المسلمين بل اتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

خامساً :فإن قيل كيف يعرف ذلك نقول يعرف بالقرائن فإذا ربى الإنسان شعراً وفرق من الوسط وأعفى لحيته وقص شاربه عرفنا أنه يريد السنة ومن أهل السنة والعكس بالعكس.

سادساً :يؤخذ من هذا الحديث أن من اتخذ شعراً ينبغي له أن يكرمه بالترجيل والدهن وما إلى ذلك .

سابعاً : يؤخذ من قولها وهي حائض جواز استخدام النساء في الحيض وأنه لا يمنع ذلك على المسلمين كما منع على بني إسرائيل .

ثامناً:يؤخذ من قولها وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان أنه يجوز خروج المعتكف من المسجد لقضاء حاجته في بيته وإن كان بعيداً عن المسجد .

تاسعاً : يؤخذ من هذا الاستثناء الحصر وأنه لا يجوز للمعتكف أن يذهب إلى البيت للأكل والشرب بل يؤتى به إليه. .

عاشراً :يؤخذ من قولها إلا لحاجة الإنسان أنه يجوز خروج المعتكف لما دعت إليه الضرورة من الحاجات التي لا تصح فيها الاستنابة أو ما أشبه ذلك .

الحادي عشر :إذا كان هذا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لعدم وجود مراحيض داخل حوائط المساجد أما الآن فبوجود هذه المراحيض ينتفي كون قضاء الحاجة لا يمكن أن يتمكن منها الإنسان إلا في بيته فإنه سيتمكن من قضاء الحاجة في مرحاض المسجد وعلى هذا فلا يجوز له الخروج إلى بيته .

الثاني عشر : في قولها إن كنت لأدخل البيت للحاجة والمريض فيه فلا أسأل عنه إلا وأنا مارة يؤخذ من ذلك عدم مشروعية عيادة المريض للمعتكف ويقال أيضاً هذا في تشييع الجنائز إلا إذا اشترط كما تقدم وهذا رأي ابن تيمية رحمه الله تعالى قياساً على الاشتراط في الإحرام وبالله التوفيق .

الحديث الثالث: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله إني كنت نذرت في الجاهلية : أن أعتكف ليلة وفي رواية : يوماًفي المسجد الحرام؟ قال : (فأوف بنذرك).

ولم يذكر بعض الرواة ( يوماً) ولا ( ليلة) .

موضوع الحديث : هل يشترط للاعتكاف صوم أم لا.

المفردات :

إني كنت نذرت في الجاهلية :المراد بالجاهلية ما قبل الإسلام وعلى هذا فإن نذر عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا كان قبل إسلامه أن أعتكف ليلة : قد مرّ معنا الاعتكاف ، ليلة : أي في ليلة ، وفي رواية يوماً : أي في يوم في المسجد الحرام :المسجد الحرام ظرف مكان للاعتكاف واليوم أو الليلة ظرف زمان فيه .

قال فأوف بنذرك : المقصود أوف بمنذورك والنذر يطلق ويراد به المنذور .

المعنى الإجمالي :

استفتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم  لأنه كان نذر اعتكاف ليلة في المسجد الحرام في زمن الجاهلية وأنه أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يوف بنذره .

فقه الحديث :

يؤخذ من الحديث مسائل :

أولاً : صحة النذر من الكافر إذ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نذر هذا النذر في الجاهلية ولم يوف به فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يوفيَ بنذره وعلى هذا فيؤخذ من هذا الحديث صحة النذر من الكافر وهذا محل خلاف .

ثانياً :وهذه المسألة تنبني على مسألة أخرى أصولية وهو هل أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة كما هم مخاطبون بأصولها؟في هذه المسألة خلاف أيضاً والراجح أنهم مخاطبون بالفروع والأصول لأن الله أخبر عن الكافرين أنهم يسألون (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) [المدثر : 42 - 43 ] الآيات وإطعام المسكين يعد من الفروع لا من الأصول وكذلك الصلاة على رأي من لا يرى تركها كفراً .

ثالثاً : إذا صح النذر من الكافر فهل يجب عليه الوفاء به وهل يصح منه الوفاء بالنذر الجواب لا يصح منه الوفاء به ما دام كافراً ويصح بعد الإسلام كما هو الحال في قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟.

رابعاً: الرواية المشهورة (أن أعتكف ليلة) (1) وورد في رواية لمسلم يوماً ومن أجل الرواية الأولى استدل بالحديث على أن الصيام ليس شرطاً في الاعتكاف وقد اختلف الأئمة في هذه المسألة فذهب الشافعي وأحمد إلى أن الصيام ليس بشرط في الاعتكاف مستدلين على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى الاعتكاف في شوال (2).
ولم يرد أنه صام تلك الأيام التي قضى فيها الاعتكاف وفي حديث ابن عباس الذي رواه الحاكم في الاعتكاف ( قال ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه ) (3).

خامساً :وقال مالك وأبو حنيفة يشترط للاعتكاف الصيام واستدل لهذا المذهب بحديث (اعتكف وصم يوماً ) وهو حديث ضعيف لأن في سنده عبدالله بن بديل بن ورقاء ويقال له ابن بديل بن بشر الخزاعي ويقال الليثي صدوق يخطئ من الثامنة .

وبحديث ( لا اعتكاف إلا بصيام ) وهو حديث ضعيف أيضاً لأن في سنده سفيان بن حسين بن حسن أبو محمد أو أبو الحسن ثقة في غير الزهري باتفاقهم من السابعة مات بالري مع المهدي وقيل في أول خلافة الرشيد روى له مسلم والأربعة أهـ.تقريب رقم 2437 . قلت : وإذا كان ثقة في غير الزهري فإنه في حديثه عن الزهري ضعف قال الحافظ باتفاق وحديثه هذا عن الزهري وعلى هذا فإن هذا الحديث ضعيف أيضاً أما حديث ابن عباس السابق فسنده على شرط مسلم كما قال الحاكم ووافقه الذهبي وعلى هذا فإنه لا يشترط للاعتكاف صيام على القول الصحيح.

سادساً: يؤخذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم  لعمر بن الخطاب رضي الله عنه (أوف بنذرك) وجوب الوفاء بالنذر حتى ولو كان قد حصل من كافر في حال كفره فإنه يجب عليه الوفاء بعد الإسلام وتقاس على ذلك القرب بل وفي ذلك حديث وهو حديث حكيم بن حزام أنه قال (يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ وَصِلَةِ رَحِمٍ فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَجْرٍ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْر) (4) فإن قيل هذا في طاعات قدمها في حال كفره أما هذه المسألة فهي طاعة التزم فعلها في حال كفره وأسلم قبل الإتيان بها وأقول: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب أوف بنذرك يدل على إنفاذ ما التزم به في حال كفره لكنه لو أنفذه في حال كفره لم يصح منه لأن من شرط الصحة الإسلام وكذلك القبول.

سابعاً: اختلف أهل العلم في جواز الاعتكاف أقل من يوم كامل ومن ليلة كاملة فأجازه بعضهم بالنية لأنه إذا جلس في المسجد ونوى اعتكاف ساعة اعتبر ذلك عباده.

وخالف في ذلك آخرون ومنعوه والقول الأول فيما أرى هو الأصح لأن ما شرع أصله بيوم أو أكثر فلا مانع من شرعيته بأقل من يوم وبالله التوفيق.

الحدث الرابع:عن صفية بنت حييّ (5)رضي الله عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً فحدثته ثم قمت لأنقلب فقام معي ليقلبني وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد  فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعا في المشي فقال النبي صلى الله عليه وسلم  : (على رسلكما إنها صفية بنت حييّ ) فقالا : سبحان الله يا رسول الله فقال : ( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراَ ) أو قال (شيئاً ) .

موضوع الحديث: زيارة المرأة للمعتكف وخروجه معها ليؤنسها.

المفردات :

حييّ : بيائين مع ضم المهملة وفتح الياء الأولى وتشديد الثانية وهو كان رئيس بني النضير .

ثم قمت لأنقلب : أي لأعود.

فقام معي ليقلبني : أي ليرجعني إلى بيتي.

فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعا : أي حياءً من النبي صلى الله عليه وسلم لكونه قائماً معه امرأته .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم على رسلكما : يعني على هينتكما امشيا بالرفق والتأني فأنها صفية بنت حييّ يعني زوجته .

فقالا سبحان الله : تعجب يعني وهل يمكن أن يسبق إلى الوهم ظن السوء بك .

فقال إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم : أي أن الله مكنه من ابن آدم فهو يدخل إلى القلب وإلى العروق .
وإني خشيت : أي خفت أن يقذف في قلبكما شراَ أي ظن سوء بي فتهلكان بسببي .

المعنى الإجمالي :

تخبر صفية بنت حييّ رضي الله عنها أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في المسجد فتحدثت معه ساعة ثم قامت لتعود إلى بيتها فقام معها يشيعها ويؤنسها فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال لهما على رسلكما أي تأنيا في المشي فإنما هي زوجتي صفية فقالا سبحان الله وهل يتطرق إلى الوهم ظن السوء بك فقال إني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شراً فتهلكان بسببي .

فقه الحديث :

يؤخذ من الحديث :

أولاً : جواز زيارة المرأة لزوجها المعتكف .

ثانياً : يؤخذ منه جواز التحدث معه وتحدثه معها .

ثالثاً : يؤخذ منه جواز تشييع المعتكف للزائر وتأنيسه بالكلام معه .

رابعاً: يؤخذ منه الاحتراز عن هجوم الخواطر الشيطانية ذلك لأن الشيطان قد مكنه الله من الإنسان فهو يجري منه مجرى الدم بمعنى أنه يدخل في العروق أما دخوله في القلب وتمكنه منه ووسوسته إليه فذلك مما نطق به القرآن الكريم حيث يقول تعالى بسم الله الرحمن الرحيم (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) [الناس: 1 - 6].

خامساً: يؤخذ منه أن الوسوسة الشيطانية لا تؤمن على العبد فإذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمن عليهم منها فغيرهم من باب أولى.

سادساً: أن الوساوس تنقسم إلى قسمين:

1 - وساوس عابرة فهذه لا يحاسب عليها العبد .

2 - وساوس ثابتة قد تؤدي بالإنسان إلى الشك فهذه الوساوس يجب على الإنسان أن يحاول قطعها عن نفسه بذكر الله عز وجل فإن الشيطان يخنس إذا ذكر الله فمن أحس بشيء من ذلك فليكثر من ذكر الله وقراءة القرآن وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم ولينفث عن يساره ثلاثاً ثم ليسال ربه أن يعيذه من الشيطان الرجيم والشاهد من الحديث لباب الاعتكاف زيارة المرأة للمعتكف وخروجه معها ليشيعها. وبالله التوفيق.

[المصدر: باب الإعتكاف - شرح عمدة الأحكام الشيخ أحمد بن يحي النجمي رحمه الله]. 

(1) البخاري في كتاب الإعتكاف باب الإعتكاف ليلاً برقم 2032 وفي باب إذا نذر في الجاهلية أن يعتكف ثم أسلم رقم 2043 وفي كتاب الأيمان والنذور باب إذا نذر أو حلف أن لا يكلم إنساناً في الجاهلية برقم 6697 كلها بلفظ (ليلة) ورواه في كتاب فرض الخمس باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من فرض الخمس ونحوه رقم 3144 بلفظ (يوماً) وفي كتاب المغازي باب قول الله تعالى (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً برقم 4320 ولم يقيد بيوم ولا ليلة.
(2) البخاري في كتاب الاعتكاف باب اعتكاف النساء رقم 2033 وفي باب الاعتكاف في شوال رقم 2041 وفي باب ضرب الأخبية في المسجد رقم 2034 وفي باب من أراد أن يعتكف ثم بدا له أن يخرج رقم 2045 ومسلم في كتاب الاعتكاف باب متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه رقم 1173 والترمذي في كتاب الصوم باب ما جاء في الاعتكاف إذا خرج منه رقم 803 والنسائي في كتاب المساجد ضرب الخباء في المساجد رقم 709 وابن ماجة في كتاب الصيام باب ما جاء فيمن يبتديء الاعتكاف وقضاء الاعتكاف رقم 1771 ومالك في كتاب الاعتكاف باب قضاء الاعتكاف رقم 699 وأبو داود في كتاب الصوم باب الاعتكاف رقم 2464 ..
(3) مستدرك الحاكم 1/439 وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ولفقهاء الكوفة حديثان لا يقاومان هذا الخبر في عدالة الرواة ورمز له الذهبي علامة مسلم (م) وقال وعارض هذا ما لم يصح (( النجمي)) .
(4) البخاري في كتاب الزكاة باب من تصدق في الشرك ثم أسلم رقم 1436 وفي كتاب البيوع باب شراء المملوك الحربي وهبته وعتقه رقم 2220 وفي كتاب العتق باب عتق المشرك رقم 2538 وفي كتاب الأدب باب من وصل رحمه في الشرك ثم أسلم رقم 5992 ومسلم في كتاب الأيمان باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده وأحمد رقم 123.
(5) صفية بنت حييّ : هي صفية بنت حييّ بن أخطب رضي الله عنها من شعب بني إسرائيل ومن ذرية هارون بن عمران عليه السلام الدليل على ذلك أنها لما تخاصمت مع إحدى زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - فافتخرت تلك عليها فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - قولي أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد صلى الله عليهم وسلم أراد الله بها خيراَ فسبيت يوم خيبر وكانت قد تزوجت بابن عم لها وقبل أن يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة خيبر فأصبحت تقص على زوجها فقالت له رأيت البارحة أن القمر سقط في حجري فلطمها حتى شج وجهها بالخاتم وقال تتمنين محمداً ملك العرب فلم تلبث إلا قليلا حتى أصبح الجيش على الأبواب فسبيت من جملة من سبي ويذكر أن دحية الكلبي أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يطلب جارية من السبي فقال اذهب فخذ واحدة أو أنها خرجت في نصيبه فقيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - صفية بنت حييّ لا تصلح إلا لك فأمر به فدعي له وقال دع هذه وخذ غيرها ثم أعتقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتزوجها وجعل عتقها صداقها توفيت في زمن معاوية رضي الله عنه .
وفي رواية أنها جاءت تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان فتحدثت عنده ساعة ثم قامت تنقلب فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - معها يقلبها حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة ثم ذكره بمعناه .
أول مدونة سلفية متخصصة في جمع تفريغات الدروس والمحاضرات والخطب وغيرها التي تخدم المنهج السلفي، والهدف من ذلك تقريب العلم الشرعي الصحيح لطلابه..
إشعار : كل حقوق التفريغ محفوظة للمدونة.
أحدث أقدم