ليلة القدر الشيخ أحمد بن يحي النجمي رحمه الله.

ليلة القدرالشيخ أحمد بن يحي النجمي رحمه الله (مفرغة).

باب ليلة القدر:

سميت ليلة القدر بهذا الاسم إما لأن تلك الليلة لها قدر وفضل ، وإما لأن مقادير أعمال العباد تقدر فيها ، وإما لأن من أحيا ليلها وصام نهارها صار ذا قدر عند الله وإما من التضييق لأن الملائكة في تلك الليلة تنزل إلى الأرض حتى تملأ الأرض ويحتمل أنها سميت بذلك ملاحظة لهذه الأمور كلها .

الحديث الأول :عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما : أَنَّ رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ . فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ . فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ . .

موضوع الحديث: تعيين ليلة القدر.

المفردات:

قوله أَنَّ رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ: أي في النوم وذلك يدل على اعتنائهم بها وتعظيمهم لها وكثرة ارتباط عقولهم بذلك.
في السبع الأواخر: أي في السبع الأواخر من العشر فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ ومعنى قد تواطأت توافقت.
 فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا: التحري هو طلب الشيء بالنظر فيما يرجو به إصابة الحق.

المعنى الإجمالي:

كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتبطون بالقرآن ومرتبطون بالقضايا الإسلامية ارتباطاً كلياً حتى تصير تلك القضايا جزءاً من حياتهم يتفكرون فيها في يقظتهم ويتراءونها في منامهم لا كما هو الحال في أهل زماننا في بعدهم عن القضايا الإيمانية وارتباطهم بالحياة الدنيا وملاذها وشهواتها لذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى رؤياهم قد توافقت على السبع الأواخر قال لهم من كان منكم متحريها فليتحرها في السبع الأواخر أما تفسير الرؤيا فهو أن الله سبحانه وتعالى يصور في قلب النائم تصورات يخلقها فيه بقدرة وحكمة لا نعلمها فهي الرؤيا التي يراها في النوم وقد اتضح من النصوص أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام هي:

1 - رؤيا من الله بواسطة الملك وهي المحمودة والممدوحة.
2 - وحلم من الشيطان يصوره الشيطان.
3 - وسوسة في اليقظة تجري على القلب في المنام.

فهذه أنواع الرؤيا وقد جاء في الحديث (أن النبوة ستة وأربعون جزءاً وأن الرؤيا الصالحة منها) (1) وفي الحديث أيضاً ذهبت النبوة ولم يبق إلا المبشرات وهي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له.

فقه الحديث:

أولاً: يؤخذ من هذا الحديث أن السبع الأواخر من العشر الأخيرة من رمضان هي أرجى ما يكون لليلة القدر وقد ورد ما يدل على أنها تتحرى في العشر الأواخر وفي الوتر منها وهذا أخص إذ أن السبع الأواخر تبدأ من ليلة أربع وعشرين لكن إذا قلنا أنها تتحرى في الوتر فهل الوتر معتبر بما مضى أو بما بقي فإن كان الوتر معتبراً بما مضى فإن ليالي رجاءها إحدى وعشرين وثلاث وعشرين وخمس وعشرين وسبع وعشرين وتسع وعشرين
وإن قلنا أنها تعتبر بما بقي فإن ليلة اثنين وعشرين تاسعة تبقى وليلة أربع وعشرين سابعة تبقى وست وعشرين خامسة تبقى وثمان وعشرين ثالثة تبقى . 

والخلاف في ليلة القدر هل هي في رمضان أو في الحول كاملاً وإذا قلنا أنها في رمضان فهل لها ليلة معينة أو أنها تنتقل في ليالي العشر وقد ذهب الجمهور إلى أنها في رمضان واختلفوا في مضنتها فمنهم من قال هي ليلة سبعة عشر التي في صبيحتها وقعت موقعة بدر ومنهم من قال هي ليلة إحدى وعشرين ومنهم من قال هي ليلة ثلاث وعشرين ومنهم من قال هي ليلة خمس وعشرين ومنهم من قال هي ليلة سبع وعشرين

وقد كان أبي بن كعب يقول أنها ليلة سبع وعشرين وعن ابن مسعود أن من قام الحول أصاب ليلة القدر وقد ذكر الحافظ ابن حجر الأقوال فيها وأوصلها إلى فوق الأربعين ثم اختلفوا هل هي معينة كما أشرنا في الخلاف سابقاً أو أنها تنتقل في ليالي رمضان وقد مال بعض أهل العلم إلى كونها تنتقل جمعاً للأدلة . 

والحديث في ذلك مختلف في التنصيص على بعض الليالي ولهذا رأى بعض هؤلاء أنها تنتقل في السبع الأواخر أو في العشر الأواخر جمعاً بين الأدلة .

والقول الصحيح فيما يظهر أنها ليلة بعينها إذ لو كانت تنتقل لما كان لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (أُريت هذه الليلة ثم أُنسيتها وقد رأيتني أسجد في ماء وطين في صبيحتها فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر ) أي ما كان لقوله أُريت هذه الليلة ثم أُنسيتها فائدة لو كانت متنقلة وعلى هذا فالصحيح أنها معينة وأنها في رمضان وأنها في العشر الأواخر بل في السبع الأواخر هذا ما تقتضيه الأدلة . وبالله التوفيق .

الحديث الثاني :عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال :(تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر) .
أقول هذا الحديث شرحه وموضوعه قد دخل في شرح الحديث قبله إلا أن هذا الحديث أعم وذلك الحديث أخص والأخص مقدم على الأعم ولقائل أن يقول قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الوسطى من رمضان طلباً ليلة القدر وقد كان صلى الله عليه وسلم يحسبها في العشر الأوسط لعله تفقهاً من قوله تعالى ( ... يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ..) [الأنفال : 41 ] والتقاء الجمعين كان في يوم سبعة عشر من رمضان ثم إن الله عز وجل أخبره بأنها في العشر الأواخر بما أري من تواطئ رؤيا أصحابه فأمر بتحريها في العشر الأواخر ثم أمر بتحريها في السبع الأواخر.

والعمل على الأخص لأن النبي صلى الله عليه وسلم  لم يخبر بها عيناً أو أنه قد أخبر بها مؤخراً ثم أُنسيها لحكمة أرادها الله ولهذا قال في الحديث السابق أرى رؤياكم قد تواطأت على السبع الأواخر فمن كان متحرياً لها فليتحرها في السبع الأواخر .

الحديث الثالث: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان فاعتكف عاماً حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه – قال : من اعتكف معي فليعتكف في العشر الأواخر فقد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر . فمطرت السماء تلك الليلة وكان المسجد على عريش فوكف المسجد فأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين .

موضوع الحديث :طلب ليلة القدر وأنها تطلب في العشر الأواخر وفي الوتر منها.

المفردات:

الاعتكاف : الاحتباس قال الله تعالى (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) أي محبوساً وفي الشرع هو لزوم المسجد للعبادة على وجه خاص قوله كان يعتكف : كان تدل على الاستمرار على ذلك عدة أعوام .
العشر الأوسط : كان الأولى أن يقول الوسطى والأوسط وصف للعشر بمجموعه ومجيئه بلسان الصحابة يدل على جواز ذلك في اللغة فهم أهلها والقرآن نزل بلغتهم.فالتمسوها :أي اطلبوها في العشر الأواخر التي يتم بها الشهر .
قوله والتمسوها في كل وتر : الوتر هو ضد الشفع وهو ما لا ينقسم على اثنين إلا بالكسر .
قوله فوكف المسجد : أي قطر الماء من سقفه يقال وكف الدمع إذا نزل .
قوله على جبهته : الجبهة هي أعلى الوجه وفي رواية وأرنبته وهي طرف الأنف الأعلى .
قوله أثر الماء والطين : أي مختلطاً مع بعضه .

المعنى الإجمالي:

يخبر أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  كان يعتكف العشر الأوسط من رمضان طلباً لليلة القدر وأنه اعتكف ذات مرة فلما كاد أن يخرج خطبهم وأخبرهم بأنه أتاه خبر من الله عز وجل بأن الذي تطلب أمامك فاستمر في الاعتكاف فاعتكف العشر الأواخر وأمر بالتماس ليلة القدر في العشر الأواخر بل في كل وتر منها وأنه قال إنه اعلم بتلك الليلة ثم أنسيها وأنه أري في رؤياه ورؤا الأنبياء حق أنه يسجد في صبيحتها في ماء وطين وأنه في ليلة إحدى وعشرين نزل المطر ووكف المسجد فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسجد بين الماء والطين يقول أبو سعيد فلقد رأيت أثر الطين على أرنبته .

فقه الحديث:

أولاً: يؤخذ من الحديث مشروعية الاعتكاف .

ثانياً : يؤخذ منه تأكده في رمضان لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليه .

ثالثاً :يؤخذ منه أن النبي صلى الله عليه وسلم  كان يعتكف في العشر الوسطى من رمضان وكأنه كان يظن أن ليلة القدر فيها أخذاً من قوله تعالى ( ... يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ..)  والمراد به يوم بدر فكأن النبي صلى الله عليه وسلم فهم من هذه الآية أن يوم بدر وقع في صبيحتها وكان في يوم 17 من رمضان .

رابعاً : يؤخذ منه أنه لما أراد أن يخرج من اعتكافه بتمام العشر الوسطى أتي فقيل له ما تطلب أمامك يعني ليلة القدر .

خامساً : أنه قال لأصحابه ( من اعتكف معي يعني في العشر الوسطى فليعتكف معي يعني في العشر الأواخر ) والمقصود فليواصل .

سادساً : يؤخذ من قوله فلقد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها أن المصلحة الدينية في نسيانها ليجتهد الناس في طلبها فيكثروا من العبادة والأجر على قدر النصب .

سابعاً :يؤخذ من قوله ( ولقد رأيتني أسجد من صبيحتها في ماء وطين ) استدل به من رأى أنها ليلة إحدى وعشرين .

ثامناً : يؤخذ من قوله ( فالتمسوها في العشر الأواخر ) أن ليلة القدر في العشر الأواخر ويؤخذ منه بطلان القول بأنها في غيرها .

تاسعاً : يؤخذ من قوله والتمسوها في الوتر منها أنه تخصيص بعد تخصيص أي أن ليلة القدر في العشر الأواخر خاصة وفي الوتر من العشر الأواخر خاصة وهي ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين وخمس وعشرين وسبع وعشرين وتسع وعشرين .

عاشراً : قال بعض أهل العلم الوتر يعتبر بما مضى فيكون ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين وخمس وعشرين وسبع وعشرين وتسع وعشرين وهذا هو المتبادر إلى الذهن من كل الوتر ويعتبر بما بقي فيقال ليلة اثنتين وعشرين لأنها تاسعة تبقى وليلة أربع وعشرين لأنها سابعة تبقى وليلة ست وعشرين لأنها خامسة تبقى وليلة ثمان وعشرين لأنها ثالثة تبقى وأقول أنه لو كان الأمر على ذلك ما كان لقوله صلى الله عليه وسلم والتمسوها في الوتر منها فائدة إذ أن الوتر ضد الشفع والذي هو ضد الشفع واحد وثلاثة وخمسة ... إلخ . 
أما ما زعمه هذا القائل فهو يقع على الذي يعتبر شفعاً لأن العبرة بما مضى لا بما بقي . وبالله التوفيق .

[المصدر: كتاب الصيام - شرح عمدة الأحكام الشيخ أحمد بن يحي النجمي رحمه الله].

(1) البخاري في كتاب التعبير باب الرؤيا من حديث أبي هريرة رقم 6988 بلفظ (رؤيا المؤمن جزء من ست وأربعين جزءاً من النبوة) وفي حديث أبي سعيد (الرؤيا الصالحة جزء من ست وأربعين جزءاً من النبوة) أخرجه بعده برقم 6989.

أحدث أقدم