الغاية من حفظ القرآن




حفظ القرآن العظيم

ينبغي على كل من يريد حفظ القرآن العظيم أن يعلم - قبل أي شيء - أنّ طلب حفظ القرآن الكريم، والاجتهاد في تحرير النطق بلفظه، والبحث عن مخارج حروفه وصفاتها، ونحو ذلك. - وإن كان مطلوبا حسنا - لكن فوقه ما هو أهم منه وأولى وأتم، وهو فهم معانيه، والتفكير فيه، والعمل بمقتضاه ، والوقوف عند حدوده ، والتأدب بأدابه.

ولهذا ؛ فحفظ القرآن وسيلة تمكن المسلم من سهولة استحضار ما أمر الله عز وجل به ، وما نهى عنه، فيكون المسلم عند ذلك متقيدا بالشرع في كل أموره ؛ وهذا قد يصعب بدون حفظ القرآن الكريم ، لاسيما في زماننا هذا الذي كثرت فيه الملهيات ؛ وليس المقصود الحفظ المجرد عن الفهم والتدبر ؛ بل المقصود حفظ القرآن الذي يبنى على مداومة قراءته بالتدبير ، قراءة تزيد الإيمان، وترضي الرحمن عز وجل، وتدفع عن القارئ كيد الشيطان ، بحيث ترتبط كل حياته - مع ربه عز في علاه ومع نفسه ومع الناس - بالقرآن.

فالحفظ المجرد لألفاظ القرآن الكريم دون العناية بفهمه والعمل بأحكامه من أخطر ما ابتلي به المسلمون قډيما كما كان حال الخوارج الذين قرءوا القرآن وجهلوا أحكامه، فإيمانهم محصور في نطقهم، كما روى مسلم في صحيحه عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة" (1)، وحديثا كما نرى من فوضى التكفير التي انتشرت في هذه الأيام فأحرقت الأخضر واليابس.

فلابد أن تقيده وتفهمه بما ثبت عن التابعيُّ الجليل أبو عبد الرحمن السُلَمي رحمه الله في وصف كيفية تعامل الصحابة رضي الله عنهم مع القرآن بقوله: "حدّثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أنهم كانوا يقترئون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: فعلمنا العلم والعمل"(2)؛ وهذا حقيقة العلم ، وذلك لأن القرآن الذي نحن نهتم به ونقرؤه ونتلوه ونتعلمه هو منبع العلوم وأصلها، ولأجل ذلك يؤمر الذين يتعلمونه ويحفظونه أن يتعلموا معانيه كما يتعلمون ألفاظه.

ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يبقون مدة طويلة في حفظ السورة، وقد ذكر الإمام مالك في الموطأ: "أن ابن عمر أقام على حفظ البقرة ثماني سنوات (3)، والذي حمل الصحابة على هذا ما جاء في كتاب الله تعالى من قوله : {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[سورة ص:۲۹]. وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن.
قال الإمام محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الشهير بالإمام أبو جعفر الطبري في تفسيره جامع البيان في تفسير القرآن: "وقوله ( كِتَابٌ أَنـزلْنَاهُ إِلَيْكَ ): يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : وهذا القرآن ( كِتَابٌ أَنـزلْنَاهُ إِلَيْكَ ) يا محمد ( مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ) يقول: ليتدبَّروا حُجَج الله التي فيه, وما شرع فيه من شرائعه, فيتعظوا ويعملوا به". (4)

وقوله عز في علاه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}؛ [يوسف:۲]. وعقلُ الكلام متضمن لفهمه؛ ومن المعلوم أن كل كلام يقصد منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، والقرآن أولى بذلك من غيره ؛ خلافا للذين يحفظون القرآن من أجل المطالب الدنيوية، والمفاخرةُ والمباهاةُ والمقاصدُ السيِّئةُ؛ فإنَّ أخْذَ القرآن بهذه النوايا يُوَرِّثُ النفاقَ؛ فقد جاء في الحديث قولُه صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم: «أَكْثَرُ مُنَافِقِي أُمَّتِي قُرَّاؤُهَا»(5).
ولا ريب أن حفظ القرآن بلا فهم ولا عمل من العلم الذي لا ينفع الذي استعاذ منه نبينا صلى الله عليه وسلم، فلابد أن تكون الغاية من حفظ القرآن هي الفهم والتدبر الذي يوصلك إلى العمل؛ وتأمل قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه، والعمل به، فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن من أهل العلم، والدین". (6)

المصادر والمراجع
(1) مسلم، (2/705)
(2) رواه أحمد 5/410 ، وابن أبي شيبة 10/460 ، وابن جرير الطبري 1/60 .
(3) الموطأ للإمام مالك، (1 - 91)
(4) جامع البيان في تفسير القرآن، تفسير قوله عز وجل: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[سورة ص:۲۹]
(5) أخرجه أحمد (٦٦٣٣) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (٢/ ٣٧٥).
(6) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية الحراني رحمه الله (23 - 55)
 
أحدث أقدم