أنواع الفتوى الشيخ محمد بن عمر بن سالم بازمول حفظه الله تعالى (مفرغة).
إذا كانت الفتوى إخباراً عن حكم الله تبارك وتعالى في الواقعة بالدليل، وإذا كان الدليل تارة يكون نصاً من القرآن العظيم أو السنة النبوية، وتارة يكون استنباطاً منهما؛ فإن الفتوى تتنوع بحسب دليلها إلى نوعين هما:
النوع الأول : فتوى هي نقل لنص القرآن العظيم أو السنة النبوية في المسألة، حيث يقتصر عمل المفتي فيها على مجرد إبلاغ المستفتي بالنص، مع ملاحظة أن المفتي لا بد له من النظر في النص الذي يبلغه من جهة ثبوته إذا كان حديثاً، ومن جهة فهم معناه، ومن جهة تحقيق المناط وتنزيل النص على الاحکام .
النوع الثاني : فتوی هی استنباط من المفتي للحکم من نصوص الشرع.قال الشاطبي رحمه الله : (إن المفتي شارع من وجه ؛ لأن ما يبلغه من الشريعة : إما منقول عن صاحبها، وإما مستنبط من المنقول)(1).
فالأول: يكون فيه مبلغاً.
والثاني: يكون فيه قائماً مقامه في إنشاء الأحكام، وإنشاء الأحكام إنما هو للشارع ، فإذا کان للمجتهد إنشاء الاحکام بحسب نظره و اجتهاده ؛ فهو من هذا الوجه شارع واجب اتباعه والعمل على وفق ما قاله ، وهذه هي الخلافة على التحقیق ، بل القسم الذي هو فيه مبلغ لا بد من نظره فيه من جهة فهم المعاني من الألفاظ الشرعیة ومن جهة تحقیق مناطها و تنزیلها علی الاحکام الأمرين راجع إليه فيها ؛ فقد قام مقام الشارع أيضاً في هذا المعنى (2) اهـ.
ولذا کانت الفتوی باعتبار دلیلها علی نوعین ؛ فانها باعتبار ثباتها و تغیرها كذلك :
النوع الأول : لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، ولا تدعو حاجة الناس إلى تغیره ؛ لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ، کوجوب الواجبات ، وتحریم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ، والآداب الاجتماعية المرتبطة بالنظام العام للشريعة ؛ كالتسمية علی الطعام، ولفظ السلام ، ونحو ذلك مما لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.
النوع الثانی: ما یتغیر بحسب اجتهاد المجتهد ، و بحسب تحقیق مناط الحكم، وتحقيق المصلحة، ومراعاة العرف فيه، إذا كان مما يلحظ فيه ذلك(3).
وأمثلة هذا النوع كثيرة منها: تنظيم جمع الزكاة وصرفها في مصارفها المقررة في الشريعة، وكالأحكام التي علقها الشارع على العرف ولم يقيدها بوصف سوی الحکم العام ؛ کالتراضي في البیوع، والفاظ القذف، والیمین؛ كمن حلف لا يأكل لحماً، والعرف يخصصه في لحم الغنم والبقر والجمل دون لحم السمك وغيره، فلو أكل لحم السمك ؛ لا يعد حانثاً.
ومما تجدر الإشارة إليه هنا : أن تغير الفتوى بهذا المعنى، إنما هو إعمال لما أمرت به الشريعة وراعته في أصولها الكلية وجزئياتها الفرعية ؛ إذ من الفتيا ما يكون من حيثيات الحكم فيها مراعاة العرف والمصلحة، فإذا تغير العرف أو تخلفت المصلحة ؛ تغيرت الحيثية، فتتغير لذلك الفتيا.
وهذا أمر مقرر، وبالله التوفيق .
قال الأستاذ مصطفى الزرقا : (قد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أن الأحكام التي تتبدّل بتبدل الزمان وأخلاق الناس هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية؛ أي : التي قررها الاجتهاد بناء على القياس أو على دواعي المصلحة، وهي المقصودة بالقاعدة الأنفة الذكر: (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان ) .
أما الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوطيدها بنصوصها الأصلية الآمرة الناهية ؛ كحرمة المحرمات المطلقة، وكوجوب التراضي في العقود، والتزام الانسان بعقده، و ضمان الضرر الذی یلحقه بغیره، و سریان إقراره على نفسه دون غيره، ووجوب منع الأذى وقمع الإجرام وسدّ الذرائع إلى الفساد، و حمایة الحقوق المکتسبة، و مسؤولیة کل مکلف عن عمله و تقصیره ، وعدم مؤاخذة بريء بذنب غيره. . . إلى غير ذلك من الأحكام والمبادىء الشرعية الثابتة التي جاءت الشريعة لتأسيسها ومقاومة خلافها ؛ فهذه لا تتبدّل بتبدل الأزمان، بل هي الأصول التي جاءت بها الشريعة لإصلاح الأزمان والأجيال، ولكن وسائل تحقيقها وأساليب تطبيقها قد تتبدل باختلاف الأزمنة المحدثة .
فوسيلة حماية الحقوق مثلاً - وهو القضاء - كانت المحاكم فيه تقوم على أسلوب القاضي الفرد، وقضاؤه على درجة واحدة قطعية؛ فيمكن أن تتبدل إلى أسلوب محكمة الجماعة، وتعدد درجات المحاكم بحسب المصلحة الزمنية التي أصبحت تقتضي زيادة الاحتياط لفساد الذمم .
فالحقيقة: أن الأحكام الشرعية التي تتبدّل بتبدل الزمان، مهما تغيّرت باختلاف الزمن ، فإن المبدأ الشرعي فيها واحد، وهو إحقاق الحق ، وجلب المصالح، ودرء المفاسد، وليس تبدّل الأحكام إلا تبدّل الوسائل والأساليب الموصلة إلى غاية الشارع ؛
فإن تلك الوسائل والأساليب في الغالب لم تحددها الشريعة الإسلامية، بل تركتها مطلقة ؛ لكي يختار منها في كل زمان ما هو أصلح في التنظيم نتاجاً وأنجح في التقويم علاجاً، أهـ(4).
قلت: وقد بين ابن قيم الجوزية رحمه الله بناء الشريعة على مراعاة مصالح العباد فی المعاش والمعاد، حیث عقد فصلا فی کتابه «اعلام الموقعین عن رب العالمین»(5)، بعنوان : «تغیر الفتوی و اختلافها بحسب تغیر الازمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد).
و قد حمل بعضی الناس (6) کلام ابن القیم رحمه الله مالا یحتمل، حتی إنهم جعلوه وکأنه یقرر جواز تفسیر النصوص أو تغییر الاجتهاد المبني عليها تبعاً للمصلحة ! هكذا على الإطلاق !!
والذي يظهر – بل هو المتيقن - أن ابن القيم رحمه الله ما أراد ذلك، ويتبين هذا بأمور منها:
أولاً : أن الأمثلة التي أوردها ابن القيم في ذلك الفصل تدور كلها على الحالات التالية :
1 - الحالة التي يثبت تغير النص فيها نص آخر، كنهي النبي صلى الله عليه وسلم
أن تقطع الأيدي في الغزو (7).
وهذه الحال تختلف تماماً عن الدعوى التي حمل عليها كلام ابن القيم رحمه الله.
2- الحالة التي تتعارض فيها المصالح التي تثبتها النصوص ؛ كترك إنكار المنکر اذا کان یستلزم ما هو أنکر منه .
وهذه الحال كسابقتها، لا تدخل في الدعوى التي ادّعي أن كلام ابن القیم یدل علیها.
3- حالة يستعمل فيها القياس وإلحاق الأشباه والنظائر بأمثالها التي تثبتها النصوص ؛ کما في حدیث المصراة : (من اشترى شاة مصراة ؛ فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام : ان شاء أمسکها، وان شاء ردها وردّ معها صاعاً من تمر)(8)،
فذکر التمر لأنه الغالب في قوت البلد ؛ فيخرج في كل موضع صاعاً من قوت ذلك البلد الغالب، فيخرج في البلاد التي قوتهم البر صاعاً من بر، وإن كان قوتهم الأرز فصاعاً من أرز... وهكذا.
وهذه الحال خارج محل الدعوى؛ إذ هي قائمة على ما أثبته النص بالقیاس علیه، بل لا یعدم ذلك ما یشیر إلیه، والله أعلم .
4 - حالة استثنائية قاهرة خاصة بحالة العجز والضرورة، ومثالها صحة طواف الحائض إذا خشيت أن تفوتها رفقتها في الحج ؛ تنزيلا لها منزلة العجز، کما صحت الصلاة ممن لا یستطیع القیام، مع أن القیام رکن، بل جعلوا ذلك بمنزلة سائر شروط الصلاة وواجباتها التي تجب وتشترط مع القدرة وتسقط مع العجز.
و هذه الحال لا دلیل فیها علی الدعوی.
5 - الحالات التي اعتبر الشارع فیها العرف و العادة ؛ کالتراضی فی العقود، وألفاظ الأيمان، والطلاق. . . ونحو ذلك.
وبتأمل هذه الحالات (9) لا نجد حالة واحدة قدّمت فيها المصلحة أو العرف علی النصں .
ثانياً: عند النظر في کلام ابن القيم وتتبعه نجده یدور حول تقریر قیام الشرع في نصوصه وما دلت عليه من أحكام على مراعاة المصلحة والعوائد بحسب الأزمان والأماكن ; فهو ينفى وجود تعارض أو مخالفة بين المصلحة ونصوص الكتاب والسنة ؛
فكيف يقال : إنه يقول بتقديم المصلحة على النص ، أو تفسیره بها؟!
ثالثاً: جاء لابن القيم رحمه الله كلام يؤكد ما ذكرت أنه مراده، وهو قوله رحمه الله في معرض إجابة عن سؤال عن طائفة من أهل العلم أنهم قالوا (وسياق کلامه یدل أنه معهم) :
«الاحکام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة ؛ كوجوب الواجبات ، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم . . . ونحو ذلك ؛ فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.
والنوع الثاني : ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً ومكاناً وحالا ؛ کمقادیر التعزیرات و اجناسها و صفاتها؛ فان الشارع ینوع فیها بحسب المصلحة) (10) اهـ.
وهذا الكلام منه رحمه الله يدل على أنه لا يقول بتغيير دلالة النصوص بحسب المصلحة، إنما يعمل المصلحة فيما أعملته فيه النصوص، وبالله التوفيق .
[المصدر: تغير الفتوى الشيخ محمد بن عمر بن سالم بازمول حفظه الله تعالى].
(1) انظر ما سيأتي في الخاتمة حول هذه الكلمة من الشاطبي رحمه الله.
(2) «الموافقات» (4 / 245) .(3) انظر: «اغاثة اللهفان من مصاید الشیطان» (1/ 330 - 331) ، و «المرونة والتطور فیالتشريع الإسلامي ) (ص 9 - 14) .
(4) «المدخل الفقهی العام» (924/2 - 925).
(5)(3 /3), وما بعدها.
(6) انظر: ( فلسفة التشريع في الإسلام ) لصبحي محمصاني (ص 241) و ما قبلها.
(7) حدیث صحیح عن بسر بن أرطأة مرفوعاً.
أخرجه الترمذي في (كتاب الحدود، باب ما جاء أن الأيدي لا تقطع في الغزو، حدیث رقم 1450)، وأبو داود في (كتاب الحدود، باب في الرجل يسرق في الغزو أيقطع ، حديث رقم ۰۸)، والنسائي في (کتاب قطع السارق، باب القطع من السفر، ۹۱/۸).
والحدیٹ ؛ صححه الألباني فی تحقیق «مشکاة المصابیح» (۱۰۹۸/۲)، و صحح اسناده محقق «جامع الاصول» (۷۹/۳ ه).
وهذا مذهب الأوزاعي وإسحاق وأحمد.
انظر: «المغنی» لابن قدامة (8/ 80)، و «تفسیر القرطبي» (171/9).
(8) حدیث صحیح عن ابی هریرة.
أخرجه البخاري في (كتاب البيوع، باب إن شاء رد المصراة وفي حلبتها صاع من تمر)، ومسلم في (كتاب البيوع ، باب حكم بيع المصراة، حديث رقم 1524)، وانظر: (جامع الأصول) . (1 /500)
(9) ذكر هذه الحالات التي تعود إليها أمثلة ابن القيم في ذلك الفصل صاحب كتاب : «مفهوم تجدید الدین» (ص 271 - 273 ) .
(10) (إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان) (1/ 330- 331/1).
إشعار : كل حقوق التفريغ محفوظة للمدونة.