في ذم البدع والمبتدعين الشيخ أحمد بن يحي النجمي رحمه الله
البدعة إحداث في الدين واستدراك على سيد المرسلين الذي أكمل الله لنا به الدين وتكذيب لله رب العالمين في إخباره بأن الدين قد كمل ولم يعد بحاجة أن يكمله أحد أو يزيد فيه.
قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} (1).
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله {اليوم أكملت لكم دينكم} وهو الإسلام، أخبر الله نبيه ( والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان فلا يحتاج إلى زيادة أبداً وقد أتمه فلا ينقصه أبداً وقد رضيه فلا يسخطه أبداً).
ثم ذكر أثراً من طريق هارون بن عنترة عن أبيه قال: لما نزلت {اليوم أكملت لكم دينكم} وذلكم يوم الحج الأكبر بكى عمر رضي الله عنه فقال له النبي : ( ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا كمل فإنه لا يكمل شئ إلا نقص. فقال له: صدقت ". قال ابن كثير ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت بأن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء (2) .
قلت: المراد بالنقص هنا النقص في قلوب الناس أما أحكام الإسلام فهي كاملة وباقية على كمالها إلى يوم القيامة، ولهذا كان من ابتدع بدعة في الدين مذموماً وملوماً وآثماً اتفق على ذلك الكتاب والسنة والآثار وإجماع أهل السنة، قال تعالى: { ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون} (3) وقال تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شئ إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم يوم القيامة بما كانوا يفعلون} (4) .
قال أبو هريرة رضي الله عنه في هذه الآية هم أهل البدع وأهل الشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة.
وقال النبي ( في حديث عائشة المتفق عليه: (من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد) وفي رواية (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) (5) .
وقال في حديث العرباض بن سارية:(عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) (6) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : (أنا فرط لكم على الحوض وليختلجن رجال دوني فأقول: يارب اصحابي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) (7) .
وفيه دليل على أن أصحاب البدع يذادون عن حوض النبي لقوله : (وليختلجن رجال دوني فأقول: يارب أصحابي، فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك).
وقد تقدم أن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه لما وقف على حلق في مسجد الكوفة، كل حلقة فيها رجل يقول سبحوا مائة فيسبحون مائة، كبروا مائة فيكبرون مائة، هللوا مائة فيهللون مائة فقال: إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحوا باب ضلالة، فقالوا: والله يا أبا عبدالرحمن ما أردنا إلا الخير: فقال رضي الله عنه: وكم من مريد للخير لم يصبه.
وقد روى ابن الجوزي بسنده إلى سفيان الثوري أنه قال: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها.
قال رجل للفضيل ابن عياض من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها.
فقال له الفضيل: من زوج كريمته من مبتدع فقط قطع رحمها، ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة، وإذا علم الله من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له سيئاته.
وقال أيضاً إذا رأيت مبتدعاً في طريق فخذ في طريق آخر ولا يرفع لصاحب البدعة عمل إلى الله عزوجل، ومن أعان صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام،
وعن محمد بن سهل قال: كنا عند الفريابي فجعل يذكر أهل البدع فقال له رجل: لو حدثتنا كان أعجب إلينا فغضب وقال: كلامي في أهل البدع أحب إلي من عبادة ستين سنة " اهـ (8)
وقال الشاطبي رحمه الله : (لا خفاء أن البدع من حيث تصورها يعلم العاقل ذمها لأن اتباعها خروج عن الصراط المستقيم ورمي في عماية، وبيان ذلك من جهة النظر والنقل الشرعي العام أما النظر فمن وجوه.
أحدها: أنه قد علم بالتجارب والخبرة السارية في العالم من أول الدنيا إلى اليوم أن العقول غير مستقلة بمصالحها استجلاباً لها أو مفاسدها استدفاعاً لها لأنها إما دنيوية أو أخروية:
فأما الدنيوية فلا يستقل باستدراكها على التفصيل البتة لا في ابتداء وضعها.
أولاً: ولا في استدراك ما عسى أن يعرض في طريقها، إما في السوابق وإما في اللواحق لأن وضعها أولاً لم يكن إلا بتعليم من الله تعالى.
لأن آدم عليه السلام لما أنزل إلى الأرض علم كيف يستجلب مصالح دنياه إذ لم يكن ذلك من معلومه أولاً.
إلى أن قال: وأما المصالح الأخروية فأبعد عن مصالح المعقول من وضع أسبابها وهي العبادات مثلاً فإن العبد لا يشعر بها على الجملة فضلاً عن العلم بها على التفصيل.
الثاني: أن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان لأن الله تعالى قال فيها: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} (9) .
ثم ذكر حديث العرباض بن سارية الذي سبق ذكره، ثم قال: وثبت أن النبي لم يمت حتى أتى ببيان جميع ما يحتاج إليه في أمر الدين والدنيا وهذا لا مخالف فيه من أهل السنة فإذا كان كذلك فالمبتدع محصل قوله بلسان حاله أو مقاله أن الشريعة لم تتم وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها.
قال ابن الماجشون سمعت مالكاً يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة لأن الله تعالى يقول: {اليوم أكملت لكم دينكم} فما لم يكن يومئذ ديناً لم يكن اليوم دينا.
والثالث: أن المبتدع معاند للشرع مشاق له، لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقاً خاصة على وجوه خاصة وقصر الخلق عليها بالأمر والنهي والوعد والوعيد وأخبر أن الخير فيها وأن الشر في تعديهاإلى غيرها لأن الله يعلم ونحن لا نعلم وأنه إنما أرسل الرسول رحمة للعالمين والمبتدع راد لهذا كله.
فإنه يزعم أن ثم طرقاً أخرى وليس ما حصره الشارع بمحصور ولا ما عينه بمتعين وكأنه يقول الشارع يعلم ونحن نعلم؛ بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع أنه علم مالم يعلمه الشارع وهذا إن كان مقصوداً للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع، وإن كان غير مقصود فهو ضلال مبين.
وإلى هذا المعنى أشار عمر بن عبدالعزيز رحمه الله حين كتب له عدي بن أرطاة يستشيره في بعض القدرية فكتب إليه الخليفة يقول: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة نبيه وترك ما أحدثه المحدثون فيما قد جرت به سنته وكفوا مؤمنته فعليك بلزوم السنة، فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطإ والزلل والحمق والتعمق، فارض لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم فإنهم عن علم وقفوا وببصر نافذ قد كفوا وهم كانوا على كشف الأمور أقوى وبفضل كانوا فيه أحرى فلئن قلتم أمر حدث بعدهم، ما أحدثه بعدهم إلا من اتبع غير سنتهم ورغب بنفسه عنهم إنهم لهم السابقون، فقد تكلموا منه بما يكفي ووصفوا منه ما يشفي فما دونهم مقصر، وما فوقهم محسر، لقد قصر عنهم آخرون فغلوا وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم.
الرابع: أن المبتدع قد نزل نفسه منزلة المضاهي للشارع لأن الشارع وضع الشرائع وألزم الخلق الجري على سننها وصار هو المنفرد بذلك لأنه حكم بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون.
وإلا فلو كان التشريع من مدركات الخلق لم تنزل الشرائع ولم يبق الخلاف بين الناس ولا احتيج إلى بعث الرسل عليهم السلام، ثم إن هذا الذي ابتدع في دين الله قد صير نفسه نظيراً ومضاهياً للشارع حيث شرع معه وفتح للاختلاف باباً، ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع وكفى بذلك ضلالاً.
الخامس: أن المبتدع متبع للهوى لأن العقل إذا لم يكن متبعاً للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة
وأنت تعلم ما في اتباع الهوى وأنه ضلال مبين، ألا ترى قول الله تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} (10).
فحصر الحكم في أمرين لا ثالث لهما عنده وهو الحق والهوى وعزل العقل مجرداً، قال تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه} (11) فجعل الأمر محصوراً في أمرين اتباع الذكر واتباع الهوى.
ومثل ذلك قوله تعالى {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} (12).
وتأملوا هذه الآية فهي صريحة في أن من لم يتبع هدى الله فهو متبع هوى نفسه فلا أحد أضل منه .(13) اهـ
وفي هذا كفاية ومقنع لمن أراد الحق ومن أراد أن يستزيد فعليه بالكتب التالية:
1 ـ كتاب الاعتصام للشاطبي رحمه الله.
2 ـ كتاب اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
3 ـ تلبيس إبليس أو نقد العلم والعلماء لابن الجوزي.
4 ـ ذم البدعة والمبتدع.
5 ـ كتاب الاعتصام من صحيح البخاري.
6 ـ كتاب السنة من سنن أبي داود.
7 ـ كتاب السنة لابن أبي عاصم.
8 ـ كتاب الشريعة للآجري.
9 ـ كتاب السنة لعبدالله بن الإمام أحمد.
10 ـ شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للإمام اللالكائي.
11 ـ السنة للإمام الخلال.
12 ـ الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة للإمام قوام السنة الأصبهاني.
13 ـ الكتاب اللطيف لشرح مذاهب أهل السنة للإمام الحافظ ابن شاهين.
14 ـ أصول السنة للإمام أبي عبدالله محمد المعروف بابن أبي زمنين.
15 ـ التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع للإمام أبي الحسين محمد ابن أحمد الملطي.
16 ـ المختار في أصول السنة للإمام أبي علي الحسن بن أحمد بن البنا الحنبلي.
17 ـ الإبانة الصغرى.
18 ـ الإبانة الكبرى كلاهما للإمام ابن بطة رحم الله الجميع.
[المصدر: المورد العذب الزلال فيما انتقد على بعض المناهج الدعوية من العقائد والأعمال الشيخ أحمد بن يحي النجمي رحمه الله].
(1) سورة المائدة الآية: 3.
(2) انظر تفسير ابن كثير (3/23) ط: الشعب، وتفسير الطبري (9/519).
(3) سورة الروم آية: 31 ـ 33.
(4) سورة الأنعام الآية: 159.
(5) أخرجه البخاري ومسلم.
(6) تقدم تخريجه.
(7) أخرجه البخاري ومسلم.
(8) من كتاب نقد العلم والعلماء لابن الجوزي.
(9) سورة المائدة آية: 3.
(10) سورة ص آية: 26.
(11)سورة الكهف آية: 28.
(12) سورة القصص آية: 50.
(13) من كتاب الاعتصام للشاطبي الباب الثاني في ذم البدع وسوء منقلب أهلها (1/ 46) وما بعدها بتصرف.