متى فرض صوم شهر رمضان على الأمة؟ الشيخ صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله
الحمدُ لله ذي الفَضل والإنعام، شَرَع الصِّيام لتَطهير النُّفوس منَ الآثام، والصَّلاة والسَّلام على نبينا مُحَمِّد، خير مَن صَلَّى وصَام، وداوَمَ على الخير واستقام، وعلى آله وأصحابه ومن اقتدى به على الدَّوام، أما بعدُ:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، والآيات بعدها.
فقد ذكرَ الله سبحانه في هذه الآيات الكريمة أنَّه كَتَبَ الصيام على هذه الأمَّة؛ كما كتب على من قبلها منَ الأمم، وكَتَبَ بمعنى فَرَض، فالصيام مفروض على هذه الأمة، وعلى الأمم قبلها.
قال بعض العلماء في تفسير هذه الآية: عبادة الصيام مكتوبة على الأنبياء وعلى أُمَمهم من آدم إلى آخر الدهر، وقد ذكر الله ذلك؛ لأنَّ الشَّيء الشَّاق إذا عَمَّ سهل فعله على النفوس، وكانت طمأنينتها به أكثر.
فالصيام إذًا فريضةٌ على جميع الأمم، وإن اختلفتْ كيفيته ووقته، قال سعيد بن جبير: كان صوم مَن قبلنا منَ العتمة إلى الليلة القابلة، كما كان في ابتداء الإسلام،
وقال الحَسَن: كان صوم رمضان واجبًا على اليهود؛ لكنَّهم تركوه وصاموا يومًا في السنة زعموا أنَّه يوم غرق فرعون وكذبوا في ذلك، فإنَّ ذلكَ اليوم يوم عاشوراء (1)، وكان الصوم أيضًا واجبًا على النصارى؛ لكنَّهم بعد أن صاموا زمانًا طويلاً صادَفوا فيه الحَرّ الشديد فكان يشق عليهم في أسفارهم ومعايشهم، فاجتمعَ رأيُ عُلَمائهم ورؤسائهم على أنْ يَجْعَلوا صيامهم في فَصْل منَ السَّنة بين الشتاء والصيف فجعلوه في الربيع، وحَوَّلُوه إلى وقت لا يَتَغَيَّر، ثم قالوا عند التَّحويل: زيدوا فيه عشرة أيام كَفَّارة لما صنعوا، فصار أربعينَ.
وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]؛ أي: بسبب الصَّوم، فالصَّوم يُسبب التقوى لما فيه من قهر النَّفس وكسر الشَّهوات، وقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]؛ قيل هي أيام من غير رمضان وكانت ثلاثة أيام، وقيل هي أيام رمضان، لأنَّه بينها في الآية التي بعدها بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ}.
قالوا: وكانوا في أوَّل الإسلام مخيرين بين الصوم والفدية لقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]، ثم نسخ التَّخيير بإيجاب الصَّوم عينًا بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]،
وحكمة ذلك التَّدَرُّج في التَّشريع والرفق بالأمة لأنَّهم لما لم يألفوا الصَّوم كان تعيينه عليهم ابتداءً فيه مَشَقَّة، فخيروا بينه وبين الفدية أولاً، ثُمَّ لَمَّا قوي يقينهم واطْمَأَنَّتْ نفوسهم وأَلِفوا الصوم وجبَ عليهم الصَّوم وحده، ولهذا نظائر في شرائع الإسلام الشَّاقَّة، فهي تشرع بالتدريج؛ لكن الصَّحيح أنَّ الآية منسوخة في حق القادر على الصيام،
وأمَّا في حق العاجز عن الصيام لكبر أو مرض لا يرجى بُرْؤُه فالآيةُ لم تنسخ في حقهم، فلَهُم أن يفطروا ويطعموا عن كل يوم مسكينًا، وليس عليهم قضاء.
أمَّا غيرهم فالواجب عليهم الصَّوم، فمن أفطر لِمرض عارض أو سفر، فإنَّه يجب عليه القضاء لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]، وقد فرض صيام شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة وصام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة رمضانات،
وصارَ صوم رمضان حتمًا وركنًا من أركان الإسلام من جحد وجوبه كَفَر، ومن أفطر من غير عذر وهو مقر بوجوبه فقد فعل ذنبًا عظيمًا، يجب تعزيره وردعه، وعليه التوبة إلى الله، وقضاء ما أفطر (2).
[المصدر: إتحاف أهل الإيمان بدروس شهر رمضان الشيخ صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله].
(1) ولیس هو الیوم الذی عینوه هم .
(2) وإن كان فطره بسبب جماع في نهار رمضان وجب عليه مع القضاء الكفارة المغلظة كما يأتى بيان ذلك إن شاء الله .