تفسير آية يدنين عليهن من جلابيبهن

تفسير-اية-يدنين-عليهن-من-جلابيبهن



تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب: 59].

السطر الأول يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يرخين على رؤوسهن ووجوههن من أرديتهن وملاحفهن؛ لستر وجوههن وصدورهن ورؤوسهن; ذلك أقرب أن يميَّزن بالستر والصيانة، فلا يُتعَرَّض لهن بمكروه أو أذى. وكان الله غفورًا رحيمًا حيث غفر لكم ما سلف، ورحمكم بما أوضح لكم من الحلال والحرام. (1)

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ}


 (قل) هذه فعل أمر ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر أن يقول جميع القرآن وأن يبلغه، لكن إذا كان الحكم مصدراً بـ(قل) فهو دليل على العناية به؛ لأنه أمر أن يبلغه بخصوصه؛ فيكون في هذا دليل على أنه أي هذا الشيء الذي أمر أن يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم أمر هام.

قوله تعالى: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} وبدأ بالأزواج؛ لأن الحماية لهن والغيرة فيهن أشد وأبلغ.

قوله تعالى: {وَبَنَاتِكَ} بنات الرسول: أربعة، لكن إذا كانت هذه الآية قد نزلت في السنة السادسة للهجرة فإن بعضهن قد مات، وعلى هذا فيكون المراد: الموجود منهن.

قوله تعالى: {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} عام في كل امرأة من المؤمنين؛ يشمل زوجات المؤمنين ومن للمؤمنين عليهن ولاية من البنات والأخوات والعمات والخالات والأمهات وغير ذلك. (2)

تفسير قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ}


وجه دلالة الآية على وجوب تغطية المرأة لوجهها وسائر بدنها عن الرجال الأجانب


دلالة الآية على وجوب تغطية المرأة لوجهها وسائر بدنها عن الرجال الأجانب فيما ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية، قال: "أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة". (3)

وتفسير الصحابي حجة، بل قال بعض العلماء إنه في حكم المرفوع إلى النبي ، وقوله رضي الله عنه: "ويبدين عينا واحدة" إنما رخص في ذلك؛ لأجل الضرورة والحاجة إلى نظر الطريق، فأما إذا لم يكن حاجة فلا موجب لكشف العين.

والجلباب: هو الرداء فوق الخمار بمنزلة العباءة. (4)

قالت أم سلمة رضي الله عنها لما نزلت هذه الآية: "خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها". (5)

وقد ذكر عن ابن مسعود وعبيدة السلماني وغيره أن نساء المؤمنين كن يدنين عليهن الجلابيب من فوق رؤوسهن حتى لا تظهر إلا عين واحدة يبصرن بها الطريق.  (6)

قال السيوطي (ت ۹۱۱ ه): قوله تعالى : {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} هذه آية الحجاب في حق سائر النساء، ففيها وجوب ستر الرأس والوجه عليهن. (7)

وقال: "المرأة في العورة لها أحوال... وحالة مع الأجانب وعورتها كل البدن حتى الوجه والكفين في الأصح". (8)

وجه الدلالة عند القائلين بعدم وجوب تغطية المرأة لوجهها وكفيها عن الرجال الأجانب


دلالة الآية على عدم وجوب تغطية المرأة لوجهها وكفيها عن الرجال الأجانب من وجهين :

الوجه الأول : إنه قد قامت قرينة قرآنية على أن قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} لا يدخل فيه ستر الوجه، وأن القرينة المذكورة هي قوله تعالى: {ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ} ، وقد دل قوله: {أَن يُعْرَفْنَ} على أن سافرات كاشفات عن وجوههن؛ لأن التي تستر وجهها لا تعرفه. (9)

الوجه الثاني : يمكن أن يفسر هذا الإدناء بأن يكون معناه: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} ما لا يظهر معه القلائد والقرطة. (10)

مناقشة أصحاب القولين


نوقش أصحاب القول الأول: بأن لفظ الآية الكريمة وهو قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} لا يستلزم معناه ستر الوجه لغة، ولم يرد نص من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع على استلزامه ذلك، وقول بعض المفسرين: إنه يستلزمه، معارض بقول بعضهم: إنه لا يستلزمه، وهذا يسقط الاستدلال بالآية على وجوب ستر الوجه. (11)

وأجيب: إن في الآية الكريمة قرينة واضحة على أن قوله تعالى فيها: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} يدخل في معناه ستر وجوههن بإدناء جلابيبهن عليها، والقرينة المذكورة هي قوله تعالى: {قُل لِّأَزْوَاجِكَ} ، ووجوب احتجاب أزواجه وسترهن وجوههن لا نزاع فيه بين المسلمين. فذكر الأزواج مع البنات ونساء المؤمنين؛ يدل على وجوب ستر الوجوه بإدناء الجلابيب كما ترى. (12)

ونوقش أصحاب القول الثاني: بأن قولهم بأن لفظ الآية: {أَن يُعْرَفْنَ} قد دل على أن سافرات کاشفات عن وجوههن؛ لأن التي تستر وجهها لا تعرف، قول باطل، وبطلانه واضح من ثلاثة وجوه:

الوجه الأول : إن سياق الآية يمنعه منعا باتا؛ لأن قوله: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} صريح في منع ذلك.

وإيضاحه: أن الإشارة في قوله: {ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ} راجعة إلى إدنائهن عليهن من جلابيبهن، وإدناؤهن عليهن من جلابيبهن، لا يمكن بحال أن يكون أدنى أن يعرفن بسفورهن وكشفهن عن وجوههن كما ترى، فإدناء الجلابیب منافي لكون المعرفة معرفة شخصية بالكشف عن الوجوه، كما لا يخفی. (13)

الوجه الثاني : أن في قوله في الآية الكريمة: {لِّأَزْوَاجِكَ} دليل أيضا على أن المعرفة المذكورة في الآية لیست بكشف الوجوه، وأن الإدناء المراد في الآية يلزم منه تغطية الوجه؛ لأن احتجابهن رضي الله عنهن لا خلاف فيه بين المسلمين. (14)

الوجه الثالث: أن عامة المفسرين من الصحابة فمن بعدهم فسروا الآية مع بيانهم سبب نزولها بأن نساء أهل المدينة كن يخرجن بالليل لقضاء حاجتهن خارج البيوت، وكان بالمدينة بعض الفساق يتعرضون للإماء، ولا يتعرضون للحرائر، وكان بعض نساء المؤمنين يخرجن في زي ليس متميزا عن زي الإماء، فيتعرض لهن أولئك الفساق بالأذى ظنا منهم أنهن إماء؛ فأمر الله نبيه أن يأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يتميزن في زيهن عن زي الإماء، وذلك بأن {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ}، فإذا فعلن ذلك ورآهن الفساق، علموا أنهن حرائر (15)، ومعرفتهم بأنهن حرائر لا إماء هو معنى قوله: {ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ} فهي معرفة بالصفة لا بالشخص. وهذا التفسير منسجم مع ظاهر القرآن، كما ترى.

فقوله: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ}؛ لأن إدنائهن عليهن من جلابيبهن "يدنين عليهن من جلابيبهن" يشعر بأنهن حرائر، فهو أدنى وأقرب لأن يعرفن، أي: يعلم أنهن حرائر، فلا يؤذين من قبل الفساق الذين يتعرضون للإماء، وهذا هو الذي فسر به أهل العلم بالتفسير هذه الآية (16)، وهو واضح.

وليس المراد منه أن تعرض الفساق للإماء جائز، هو حرام، ولا شك أن المتعرضين لهن من الذين في قلوبهم مرض، وأنهم يدخلون في عموم قوله: {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} [الأحزاب: 60] في قوله تعالى : {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَّلْعُونِينَ ۖ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)}  [الأحزاب: 60- 61]

ومما يدل على أن المتعرض لما لا يحل من النساء من الذين في قلوبهم مرض قوله تعالى : {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}, الآية [الأحزاب: ۳۲]، وذلك معنی معروف في كلام العرب.

وفي الجملة: فلا إشكال في أمر الحرائر بمخالفة زي الإماء ليهابهن الفساق، ودفع ضرر الفساق عن الإماء لازم، وله أسباب أخر ليس منها إدناء الجلابيب. (17)


المصادر والمراجع

(1) التفسير الميسر، سورة الأحزاب، آية 59، ص:426
(2) تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} الأحزاب، الآية: 59؛  ابن عثيمين. 
(3) أخرجه الطبري في تفسيره: ( ۱۸۱ / ۱۹ ). أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس؛ وهي صحيفة قواها أحمد، واحتج بها البخاري.
(4) رسالة الحجاب لابن عثيمين: (۱۲). 
(5) أخرجه ابن أبي حاتم: ( ۳۱۵۶ / ۱۰ )، وأصله في سنن أبي داود: (4101)، وصححه الألباني. 
(6) أخرجه ابن كثير في تفسيره: (4۸۲ / ۹ )، وغيره. عنهما بسند حسن.
(7) الإكليل في استنباط التنزيل: (۲۱۶).
(8) الأشباه والنظائر : (۲۶۰). 
(9) أضواء البيان : (645/ ۹ - 646).
(10) جلباب المرأة المسلمة: (۵۷). (4) ينظر : أضواء البيان : (6 /645).
(11) أضواء البيان : (645/ 4). 
(12) أضواء البيان : (6/ 645). 
(13) ينظر : أضواء البيان: (6/ 664). 
(14) أضواء البيان: (6/ 664). 
(15) ينظر مثلا: تفسير الطبري: ( ۱۸۱ / ۱۹ وما بعده). تفسير ابن كثير : (٤۸۲/ ۹).
(16) ينظر مثلا: تفسير الطبري: ( ۱۸۳ / ۱۹ ). تفسير ابن عطية: (۳۹۹ / 4 ) تفسير القرطبي: ( ۲۲۹/۱۷ - ۲۳۰). 
تفسير ابن كثير : (4۸۲ / ۹ ). (۲) أضواء البيان: (6/ 664- 647).
(17) أضواء البيان: (6/ 646-647). 
أحدث أقدم