شرط في معنى العلامة
النوع الخامس من أنواع الشروط عند الحنفية : شرط في معنى العلامة. مثلوا له بالإحصان (١)، وهو مذهب بعض الحنفية، وقد جعلوا الإحصان شرط في معنى العلامة لأمرين:
أحدهما: لتوقف وجوب الرجم عليه وإن كان متقدما على العلة - أي الزنا - صورة ومعنى، لأن تقدمه عليها لا يتناقض مع كونه شرط، وبرر صدر الشريعة (هو فقيه وأصولي منطقي ومتكلم حنفي ماتريدي) عدم التناقض؛ أن الشروط أنواع:
منها التعليقي ، وهو ما يلزم تأخره عن صورة العلة ؛ ومنها الحقيقي: وهو ما يتوقف عليه الشيء عقلا ، أو شرعا، فقد يتقدم على صورة العلة كشروط الصلاة، وشهود النكاح ؛ وقد يتأخر كالحفر المتأخر عن وجود ثقل زيد، وقطع الحبل المتأخر عن وجود ثقل القنديل ؛
فالمتأخر لكونه أقوى بواسطة اتصاله بالحكم، يسمى شرطا في معنى العلة، والمتقدم لعدم مقارنة الحكم يسمی شرطا في معنى العلامة، وهو السبب الثاني لتسمية الشرط علامة ، أي أن الإحصان شرط إلا أنه سُمّي علامة لمشابهته العلامة في عدم الاتصال بالحكم. (٢)
واعترض سعد الدين التفتازاني (فقيه متكلم، وأصولي نحوي) على صدر الشريعة فقال : (ظاهر كلام المصنف محل نظر : أما أولاً فلأن الشرط التعليقي قد يكون متقدما، وإنما المتأخر ظهوره والعلم به ، كما في تعليق عتق العبد بكون قيده عشرة أرطال ؛ وأما ثانيا: فلأنه ليس كل شرط متقدم يسمى علامة كالطهارة للصلاة، ولا كل شرط متأخر يكون في معنى العلة كشهود اليمين (٣) وأما ثالثا : فلأن الشرط الذي في معنى العلة قد يتقدم على صورة العلة ، كما إذا كان ولادة من سقط في البئر بعد حفر البئر، فإن ثقله الذي هو العلة قد حصل بعد الشرط، أعني إزالة الإمساك عن الأرض). (٤)
ما سبق ذكره في الإحصان من أنه شرط في معنى العلامة ليس هو الرأي الأوحد، بل هناك رأيان آخران، أحدهما أنه شرط خالص، والثاني: أنه علامة خالصة ؛ فيكون في المسألة ثلاثة آراء تقدم الحديث عن الأول، وإليك تفصيل القول في الآخرين.
الثاني: مفاده: أن الإحصان علامة خالصة وليس شرطا قال به بعض المتأخرين واستدلوا بالآتي :
١ - الإحصان مجرد علامة يعرف بظهوره كون الزنا موجبا للرجم، وهو ليس بشرط، لأن الشرط : ما يمتنع ثبوت العلة حقيقة بعد وجودها صورة إلى وجوده ؛ كما في تعليق الطلاق بدخول الدار، والإحصان ليس ذلك ، لأن الزنا موجب للعقوبة بنفسه، ولا يمتنع ثبوت الحکم به إلى وجود الإحصان؛ يؤكد هذا أن الإحصان لو وجد بعد الزنا لا يثبت بوجوده حکم الرجم ، فدل أنه علامة ليس بشرط، إذ لا يضاف إليه وجوب به ولا وجود عنده. (٥)
يعترض عليه : أنه بائن الضعف، لأن الإحصان وإن كان متقدما على العلة صورة ومعنى، إلا أن هذا لا يتناقض مع كونه شرط، إذ من الشروط ما هو متقدم على صورة العلة، ولا يقدح ذلك في شرطيته كالطهارة أو ستر العورة للصلاة، إذ هما شرطان باتفاق . (٦)
يقول السمرقندي : لأن الشرط ليس بمانع انعقاد العلة، بل لم تنعقد العلة عند عدم الشرط فتكون على العدم الأصلي ، ألا ترى أن أركان الصلاة إذا وجدت بصورتها لم تنعقد صلاة عند حدوث شروطها بعدها، لكن لا بد أن يكون الشرط مقارنة حال وجود العلة، لتوجد العلة عند وجوده ، والزنا لا ينعقد علة لوجود الرجم إلا إذا وسجد حال وجود الإحصان، فیکون الإحصان شرطا لانعقاد الزنا علة. (٧)
۲ - لما لم يضمن شهود الإحصان سواء رجعوا مع شهود الزنا، أو رجعوا وحدهم، دل ذلك على أنه علامة، إذ لو كان شرطة لقلنا بتضمينه؛ كما لو اجتمع شهود الشرط واليمين، ثم رجع شهود الشرط وحدهم فإنهم يضمنون، لأن الشرط صالح لخلافة العلة عند تعذر إضافة الحكم إليها لتعلق الوجود به ، أما العلامة فغير صالحة لخلافة العلة لأنه لا يتعلق بها وجوب ولا وجود.
يعترض عليه : بأن عدم تضمين شهود الإحصان ليس محل اتفاق عند الحنفية، فزفر يری تضمينهم على أي حال، فإن رجعوا وحدهم ضمنوا دية المشهود عليه ، وإن رجعوا مع شهود الزنا يشتركون جميعا في الضمان ومستنده:
أن من الأصول الثابتة عنده أن السبب - أي العلة - والشرط سواء في إضافة الضمان إليهما، لأن الحكم يقف على الشرط كما يقف على العلة، ولا يتصور ثبوت الحكم إلا عند وجودهما، فيضاف إلى كل واحد منهما، والإحصان لا يعدو هذا المعنى، إذ هو ملحق بالزنا في إضافة الحد إليه بدليل أن الشهادة على الإحصان تقبل من غير دعوی ، والشهادة على النكاح في غير هذه الحالة لا تقبل بدون دعوى ، ولو لم يكن الحد مضافا إليهما لما قبلت كما في غير هذه الحالة.
ومما يؤكد أن العلة والشرط سواء في إضافة الحكم، أنه لو أقر بالإحصان ثم رجع يقبل رجوعه ، كما أنه لو أقر بالزنا، ثم رجع يقبل رجوعه؛ كما أن القاضي يسأل شهود الإحصان عن الإحصان ما هو، وكيف هو، كما يسأل عن الزنا،
ومما يؤكد أن العلة والشرط سواء في إضافة الحكم، أنه لو أقر بالإحصان ثم رجع يقبل رجوعه ، كما أنه لو أقر بالزنا، ثم رجع يقبل رجوعه؛ كما أن القاضي يسأل شهود الإحصان عن الإحصان ما هو، وكيف هو، كما يسأل عن الزنا،
على أن المزکی إذا رجع عن تزكيته يضمن عند أبي حنيفة، علما بأنه أثبت شرط قبول هذه الشهادة، ومعلوم أن ثمة تقارباً بين المزكين وشهود الإحصان بجامع أنهم أثبتوا خصالاً حميدة، فالأول أثبتها في الشاهد، والثاني أثبتها في الجاني ، وشهادة شهود الإحصان أقرب إلى محل الحد من التزكية، فكان أولى بالضمان. (٨)
يجاب على الاعتراض : سلمنا أن الإحصان شرط، لكن لا يجوز إضافة الحكم إليه، لأن شهود الشرط لا يضمنون بالرجوع عند صلاح العلة لإضافة الحكم إليها، وما نحن بصدده كذلك، فالزنا هو العلة، وهو صالح للإضافة، فإذا رجع شهود الإحصان لا يضمنون لصلاح العلة حتى إذا رجع شهود الزنا وجب الضمان عليهم، وإن ثبتوا انقطع الحكم بشهادتهم عن الشرط .
على أن الإحصان خصال حميدة، والحد عقوبة، ويستحيل إضافة العقوبة إلى الخصال الحميدة، فغدا مضافا إلى الزنا من كل وجه. أما عن صحة رجوع المقر بالإحصان، فبيانه :
أنه لما صار شرطا للحد، صار حقا لله تعالى ، لأن شرط الحق وسببه من حقوق صاحب الحق ؛ ولما كان الحد حق الله تعالى ، ورجع المقر بشرطه صح رجوعه، لأن الله تعالى لم يكذبه في الإنكار، ولم يصدقه في الإقرار، بخلاف حقوق العباد، لأن الخصم صدقه بالإقرار، و كذبه في الإنكار، فبطل الرجوع بمعارضة التكذيب، لهذا قبلنا الشهادة فيه بدون دعوی ، لأن الشهادة في حقوق الله تعالى تقبل بدونها. (٩)
۳ - مما يؤكد أن الإحصان علامة وليس بشرط أنه يثبت بشهادة النساء مع الرجال ، ولا تشترط الذكورية في شهوده، فلو كان شرطا لوجوب الرجم لتعينت الذكورية في إثباته . (١٠)
يعترض عليه : أنه لا يلزم من عدم اشتراط الذكورة في شهود الإحصان، أن الإحصان علامة، وأنه لا يترتب عليه الرجم؛ لأن ثمة فرقا بين شرط العلة، وبين شرط شرطها؛ فاشتراط الذكورة في علة العقوبة لا يكون اشتراطا فيما هو شرط العلة ؛ وعليه فلا يستدل من عدم اشتراط الذكورة في شهود الإحصان أنه علامة لا شرطا. (١١)
على أن زُفر بن الهذيل العنبري التميمي قال بعدم ثبوت الإحصان قبل الزنا وبعده بشهادة النساء . مع الرجال، لأن الإحصان ملحق بالزنا في إضافة الحكم إليه، ولأن المقصود منه تکمیل : العقوبة ، والمكمل للعقوبة بمنزلة الموجب لأصلها، وبهذا الاعتبار لا يكون للنساء فيه شهادة ، بخلاف شهادتهن مع الرجال بالنكاح في غير هذه الحالة، فإنها تقبل لأن تكميل الحد لا يتعلق بالإحصان في غيرها من الحالات. (١٢)
يجاب عليه : أن الإحصان مجموع خصال حميدة بعضها مأمور به ، وبعضها مندوب إليه، فيستحيل أن يكون سببا لإيجاب العقوبة؛ ولئن كان شرطا فالحد لا يضاف إليه حالة وجود علة صالحة لإضافة إلحكم إليها، فكانت الشهادة بالنكاح في هذه الحالة تستوي مع غيرها من الحالات، فتقبل فيها شهادة النساء مع الرجال. (١٣)
الثالث : مفاده: أن الإحصان شرط خالص لا معنى للعلامة فيه ، وقد نسبه العلماء (١٤) إلى أكثر المتقدمين والمتأخرين، واستدلوا بالآتي :
- لما كان شرط الشي ء ما يتوقف عليه وجوده، فإن الإحصان بهذه المثابة ، لأن وجوب الرجم بالزنا متوقف على وجود الإحصان.
- لما كان كل من الطهارة، وستر العورة، واستقبال القبلة، وغيرها شروطا للصلاة، متقدمة عليها صورة و معنى ، فلا يتصور انعقاد الصلاة دونها أو واحدة منها؛ ولما كان الإشهاد شرطا في النكاح متقدما عليه صورة ومعنى، ولا يتصور انعقاده دون شرطه فكذلك الإحصان بالنسبة للرجم.
- لا يقال إن الإحصان لا يتعلق به وجود، بل إن ثبوت وجوب الرجم بالزنا متعلق به ، والزنا لا يوجب الرجم بدون الإحصان، كالسرقة لا توجب القطع بدون النصاب، ومعلوم أن النصاب شرط بلا شبهة فكذا الإحصان. (١٥)
المصادر والمراجع
(١) الإحصان في اللّغة: معناه الأصليّ المنع، ومن معانيه: العفّة والتّزوّج والحرّيّة. ويختلف تعريفه في الاصطلاح بحسب نوعيه: الإحصان في الزّنا، والإحصان في القذف.
(٢) التوضيح على التنقيح لصدر الشريعة (١٤٨-۲)، علما بأن صدر الشريعة لا يرى هذا الرأي بل مذهبه أن الإحصان علامة وليس شرطا؛ ؛ التوضيح على التنقيح لتفتازاني (٢-١٤٨)
(٣) بيان المسألة: كما لو شهد اثنان على رجل أنه قال لآخر: إن دخلت الدار فعبدي حر، وشهد آخران أنه دخلها، فحكم القاضي بالعتق، ثم رجع الأربعة جميعا، فالضمان على شهود اليمين دون شهود الشرط، انظر : لمغني في أصول الفقه (٣٤٨)
(٤) التوضيح على التنقيح (٢-١٤٨)
(٥) أصول السرسخي (٢-٣٢٨)؛ کشف الأسرار للنسفي (٢-٤٤٥)
(٦) کشف الأسرار لعلاء الدين البخاري الحنفي (٤-٢١٩)؛ التوضيح على التنقيح لصدر الشريعة (٢-١٤٨)
(٧) ميزان الأصول في نتائج العقول للسمرقندي (٦٢٦)
(٨) کشف الأسرار لعلاء الدين البخاري (٤-٢١٩،٢٢٠)
(٩) کشف الأسرار لعلاء الدين البخاري (٤-٢٢٠)
(١٠) أصول البزدوى (٤-٢٢٠)؛ أصول السرسخي (٢-٣٢٨)؛ ؛ التوضيح على التنقيح لصدر الشريعة (٢-١٤٩)؛ کشف الأسرار للنسفي (٢-٤٤٦)
(١١) ميزان الأصول في نتائج العقول للسمرقندي (٦٢٦)
(١٢) أصول السرسخي (٢-٣٢٨)؛ کشف الأسرار لعلاء الدين البخاري (٤-٢٢٠)؛ کشف الأسرار للنسفي (٢-٤٤٦)
(١٣) کشف الأسرار للبخاري (٤-٢٢١)
(١٤) انظر: السمرقندي، میزان الأصول (۱۲۹)؛ البخاري، کشف الأسرار (۲۱۹-٤) ؛ ابن ملك، شرح المنار (۹۲۸)؛ عزمي زاده، حاشيته على المنار (۹۲۸)؛ التفتازاني، التلويح (۱٤۸-۷).
(١٥) البخاري ،کشف الأسرار لعلاء الدين البخاري (٤-٢١٩)
(٢) التوضيح على التنقيح لصدر الشريعة (١٤٨-۲)، علما بأن صدر الشريعة لا يرى هذا الرأي بل مذهبه أن الإحصان علامة وليس شرطا؛ ؛ التوضيح على التنقيح لتفتازاني (٢-١٤٨)
(٣) بيان المسألة: كما لو شهد اثنان على رجل أنه قال لآخر: إن دخلت الدار فعبدي حر، وشهد آخران أنه دخلها، فحكم القاضي بالعتق، ثم رجع الأربعة جميعا، فالضمان على شهود اليمين دون شهود الشرط، انظر : لمغني في أصول الفقه (٣٤٨)
(٤) التوضيح على التنقيح (٢-١٤٨)
(٥) أصول السرسخي (٢-٣٢٨)؛ کشف الأسرار للنسفي (٢-٤٤٥)
(٦) کشف الأسرار لعلاء الدين البخاري الحنفي (٤-٢١٩)؛ التوضيح على التنقيح لصدر الشريعة (٢-١٤٨)
(٧) ميزان الأصول في نتائج العقول للسمرقندي (٦٢٦)
(٨) کشف الأسرار لعلاء الدين البخاري (٤-٢١٩،٢٢٠)
(٩) کشف الأسرار لعلاء الدين البخاري (٤-٢٢٠)
(١٠) أصول البزدوى (٤-٢٢٠)؛ أصول السرسخي (٢-٣٢٨)؛ ؛ التوضيح على التنقيح لصدر الشريعة (٢-١٤٩)؛ کشف الأسرار للنسفي (٢-٤٤٦)
(١١) ميزان الأصول في نتائج العقول للسمرقندي (٦٢٦)
(١٢) أصول السرسخي (٢-٣٢٨)؛ کشف الأسرار لعلاء الدين البخاري (٤-٢٢٠)؛ کشف الأسرار للنسفي (٢-٤٤٦)
(١٣) کشف الأسرار للبخاري (٤-٢٢١)
(١٤) انظر: السمرقندي، میزان الأصول (۱۲۹)؛ البخاري، کشف الأسرار (۲۱۹-٤) ؛ ابن ملك، شرح المنار (۹۲۸)؛ عزمي زاده، حاشيته على المنار (۹۲۸)؛ التفتازاني، التلويح (۱٤۸-۷).
(١٥) البخاري ،کشف الأسرار لعلاء الدين البخاري (٤-٢١٩)