علم المكي والمدني جزء من علوم القرآن ، فعلوم القرآن اسم جامع يقصد به أنواع شتى من البحوث التي تتعلق بالقرآن العظيم، وهي كثيرة: فمنها المحكم والمتشابه ، وأسباب النزول ، والعام والخاص، و المكي والمدني ، والناسخ والمنسوخ، وجمعه وترتيبه ، وقراءاته وإعجازه، إلى غير ذلك من الأبحاث التي تتعلق بالقرآن الكريم، فكل علم من هذه العلوم يطلق عليه اسم علم من علوم القرآن .
تعريف المكي والمدني في اللغة
المكي لغة نسبة إلى أشرف بقعة على وجه الأرض ، منزل الأنبياء ، ومهبط الوحي. (١)
وهي نسبة قياسية ، لأن كل اسم آخره تاء التأنيث وجب حذفها عند النسبة، يقال في مكة : مکی. (۲)
قال ابن مالك في الألفية : ( ومثله مما حواه احذف وتا ... تأنيث أو مدته لا تثبتا ). (۳)
والمدني : نسبة غلبت على مدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال الحميري : (المدينة اسم غلب على مدينة النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال تعالى : (يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) (٤) (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ). (٥) (٦) ؛ وقال السمعاني : (أكثر ما ينسب إليها يقال: المدني، والمديني). (٧)
تعريف المكي والمدني بمعناه العام
علم يبحث منازل القرآن المكي والمدني ، وكل ما يتعلق بذلك من ملابسات الأحوال.
ما الذي يقصد بوصف السورة بأنها مكية أو مدنية
وقبل أن نبدأ تعريف المكي والمدني اصطلاحا ثمة سؤال يطرح نفسه في هذا المقام ، وهو ما الذي يقصد بوصف السورة بأنها مكية أو مدنية ؟ هل هي بأجمعها ، أو أن المراد بعض السورة ، أو العبرة بالغالب ؟ إذ قد يكون في السورة المكية بعض آیات مدنية ، وفي السورة المدنية بعض آیات مكية .
والجواب على هذا السؤال : إن هذا وصف بحسب أكثر الآيات التي تغلب على السورة ، قال الحافظ ابن حجر منتقدا ما قاله النحاس من أن سورة النساء مكية بدعوى أن قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) نزل في مكة ، قال : (فلا يلزم من نزول آية أو آيات من سورة طويلة بمكة إذا نزل معظمها بالمدينة أن تكون مكية ، بل الأرجح أن جميع ما نزل بعد الهجرة معدود من المدني). (٨)
وبعد أن عرفنا مقیاس وصف السورة بأنها مكية أو مدنية نأتي إلى تعريفات العلماء في تعريف المكي والمدني .
تعريف المكي والمدني اصطلاحا
فقد وضع العلماء اصطلاحات ثلاثة للتعريف بالمكي والمدني ، وهذه الاصطلاحات الثلاثة مبنية باعتبارات مختلفة: ففي الوقت الذي جعله بعضهم باعتبار الزمان ، اعتبره آخرون بحسب المكان ، وهكذا قال فريق ثالث : إنه باعتبار المخاطب ، وإليكم التفصيل :
الاصطلاح الأول : أن المكي ما نزل من القرآن قبل هجرة الرسول ، حتى ولو نزل بغير مكة ، والمدني ما نزل من القرآن بعد الهجرة وإن نزل بمكة ، وهذا الاصطلاح روعي فيه الزمان. (٩)
الاصطلاح الثاني : أن المكي ما نزل من القرآن بمكة ولو بعد الهجرة، والمدني مانزل في المدينة ، وأصحاب هذا القول يدخلون في مكة ضواحيها كمنی وعرفات والحديبية ، ويدخلون في المدينة ضواحيها کبدر، وأحد، وسلع.
الاصطلاح الثالث : أن المكي ما كان خطابا لأهل مكة ، والمدني ما كان خطابا لأهل المدينة. (١٠)
الاصطلاح المختار من هذه الاصطلاحات الثلاثة
يبدو بعد الموازنة بين تلك الاصطلاحات أن الاصطلاح الأول هو أرجحها باعتبار الزمان، ما نزل قبل الهجرة فهو مكي، وما نزل من القرآن بعد الهجرة فهو مدني.
وقد ظهر هذا المفهوم في وقت مبكر، ومال إليه الجمهور من العلماء، وذلك للأسباب التالية :
- أولا : أن هذا الاصطلاح ضابط وحاصر ومطرد ، إذ تنعدم على القول به الواسطة.
-
ثانيا : يبدو لمن تأمل في هذا الاصطلاح أنه هو الذي كان يقصده الصحابة من قولهم : نزل كذا من السور بمكة ، ونزل كذا من السور بالمدينة : ومما يؤيد ذلك أنهم قد عدوا من المدني سورة التوبة ، وسورة الفتح، وسورة المنافقون، ولم تنزل سورة التوبة كلها بالمدينة ، فقد نزل كثير من آياتها على رسول الله ﷺ وهو في طريق عودته من تبوك. ونزلت سورة الفتح على النبي ﷺ وهو عائد من صلح الحديبية ونزلت سورة المنافقون عليه وهو في غزوة بني المصطلق.
- ثالثا : أن الاعتماد على هذا الاصطلاح يقضي على معظم الخلافات التي أثيرت حول تحديد المكي والمدني .
رابعا : أن هذا الاصطلاح هو الذي درج عليه كثير من الباحثين في علوم القرآن قديما وحديثا:
- قال ابن عطية الغرطاني المالكي: ( وكل ما نزل من القرآن بعد هجرة النبي فهو مدني ، سواء ما نزل بالمدينة ، أو في سفر من الأسفار، أو بمكة ، وإنما يرسم بالمكي ما نزل قبل الهجرة). (١١)
- وقال أيضا : (وما نزل بعد الهجرة فإنما هو مدني وإن نزل في مكة ، أو في سفر من أسفار النبي). (١٢)
- وقال الحافظ ابن كثير: ( فالمكي ما نزل قبل الهجرة ، والمدني ما نزل بعد الهجرة ، سواء كان بالمدينة أو بغيرها من أي البلاد كان ، حتى ولو كان بمكة أو عرفة). (١٣)
- ويدلي برهان الدين البقاعي بدلوه في تقرير رأي الجمهور ، فيقول : ( وكل ما نزل قبل الهجرة فهو مكي ، وكل ما نزل بعدها فهو مدني ، ولو كان النبي لا وقت نزوله في بلد آخر). (١٤)
- وقال أيضا : (فإن العبرة بالمدني بالنزول بعد الهجرة). (١٥)
- هذا وقد ذكر الزرکشي والسيوطي أن هذا القول هو أشهر الأقوال. (١٦)
وهذا مفهوم تطمئن النفس إليه، ويمكن الاعتماد عليه؛ لأنه جامع مانع، ويمكن أن تظهر آثاره وثماره عند تلمس المسائل المتصلة بالمكي والمدني كالنسخ، التدرج في الأحكام، والكشف عن مراحل الدعوة وسماتها.
المصادر والمراجع
(١) الأنساب ، للسمعاني : (٥-٣٧٦)
(۲) مزيدا من الشرح للقاعدة انظر : شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك (٢-٤٩١)
(۳) ألفية ابن مالك في النحو والصرف (۹۸)
(٤) جزء من الآية (٨) من سورة المنافقون
(٥) سورة التوبة ، الآية (۱۰۱).
(٦) الروض المعطار في خبر الأقطار للحميري (٥٢٩)
(٧) الأنساب والتحبير في المعجم الكبير (٥-٣٥)
(٨) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (۱۰۹-۸)
(٩) الإتقان في علوم القرآن ، للسيوطي (١-٢٧،٢٩) ، مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم ، لطاش کبری زاده (۳۸-۲)، أصول التفسير لابن عثيمين.
(١٠) انظر : البرهان في علوم القرآن ، للزرکشي (۱۸۷/ ۱ )، الإتقان في علوم القرآن (۲۹/۱ -۲۷) ، مفتاح السعادة ، لطاش کبری زاده ( ۳۸۱/ ۲) .
(١١) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (٥-٥)
(١٢) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (٤-٥)
(١٣) فضائل القرآن ، لابن كثير (ص ۱۱)
(١٤) مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور ، للبقاعي (۱۹۱-۱)
(١٥) مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور ، للبقاعي (١٠٤-٢)
(١٦) انظر : البرهان في علوم القرآن ، للزرکشي (۱۸۷/ ۱ )، والإتقان ، للسيوطي (۲۶/۱)
(۲) مزيدا من الشرح للقاعدة انظر : شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك (٢-٤٩١)
(۳) ألفية ابن مالك في النحو والصرف (۹۸)
(٤) جزء من الآية (٨) من سورة المنافقون
(٥) سورة التوبة ، الآية (۱۰۱).
(٦) الروض المعطار في خبر الأقطار للحميري (٥٢٩)
(٧) الأنساب والتحبير في المعجم الكبير (٥-٣٥)
(٨) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (۱۰۹-۸)
(٩) الإتقان في علوم القرآن ، للسيوطي (١-٢٧،٢٩) ، مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم ، لطاش کبری زاده (۳۸-۲)، أصول التفسير لابن عثيمين.
(١٠) انظر : البرهان في علوم القرآن ، للزرکشي (۱۸۷/ ۱ )، الإتقان في علوم القرآن (۲۹/۱ -۲۷) ، مفتاح السعادة ، لطاش کبری زاده ( ۳۸۱/ ۲) .
(١١) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (٥-٥)
(١٢) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (٤-٥)
(١٣) فضائل القرآن ، لابن كثير (ص ۱۱)
(١٤) مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور ، للبقاعي (۱۹۱-۱)
(١٥) مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور ، للبقاعي (١٠٤-٢)
(١٦) انظر : البرهان في علوم القرآن ، للزرکشي (۱۸۷/ ۱ )، والإتقان ، للسيوطي (۲۶/۱)