مفهوم النسخ عند السلف والمتقدمين
لا بد لنا قبل عرض تعريفات الأصوليين للنسخ من الرجوع إلى عصر الرسالة ثم عصر الصحابة والتابعين، للوقوف عن مفهوم النسخ عند السلف والمتقدمين؛ إذ هو الأساس السليم الذي ينبغي أن يقوم عليه ما جاء بعده.
وكان من الطبيعي ألا نجد تعريفا للنسخ في ذلك العهد ، مع أنه قد رويت فيه عن الصحابة والتابعين قضايا نسخ كثيرة؛ فقد كان النسخ عندهم مدلول لا يجهله المسلمون وهم حديثو عهد بنزول القرآن الكريم، وببيان الرسول صلى الله عليه وسلم له.
ثم كان الواقع أن التأليف على منهج المناطقة لم يكن قد بدأ حتى عهدهم، فلم تكن تعرف المصطلحات العلمية بحدود منطقية. والمراد بالسلف الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى عصر الإمام الشافعي الذي تم على يده التصنيف في علم الأصول بصورة مستقلة، وإن لم يؤلف على طريقة الأصوليين وسننهم المعروفة.
وقد جرت عادة السلف والمتقدمين أن يطلقوا اسم النسخ على كل ما فيه أدنی معارضة لمقتضى الظاهر من نص فأطقوا النسخ علی التخصيص وعلى الاستثناء وعلى بيان المجمل وتقييد المطلق وغير ذلك.
وهكذا فإن النسخ كما فهمه السلف مطلق التغيير الذي يطرأ على بعض الأحكام، فيرفعها ليحل محلها، أو يخصص ما فيها من عموم، أو يقيد ما فيها من إطلاق.
سواء أكان الناسخ عندهم متصلا بالنص المنسوخ، كما في الاستثناء، والتقييد، أم كان منفصلا عنه متأخرا في النزول كما في رفع الحكم السابق كاملا (وهو النسخ عند الفقهاء والأصوليين)، وكما في رفع الحكم عن بعض ما يشمله العام إذا تأخر نزول المخصص (وهو النسخ الجزئي عند الحنيفية).
ومع أن الشافعي قد توفي أوائل القرن الثالث للهجرة، نجد أن نحو قرن من الزمان يمضي، دون أن يقدم لنا تعريفا للنسخ حتى إذا جاء في كلام الإمام الطبري رحمه الله في تفسيره (جامع البيان) ما يدل على هذا التفريق.
يقول أبو جعفر الطبري: (وقد دللنا في كتابنا كتاب (البيان عن أصول الأحكام) على أن لا ناسخ من آي القرآن ، وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا ما نفی حکم ثابت ، وألزم العباد فرضه ، غير محتمل بظاهره وباطنه غير ذلك ، فأما إذا ما احتمل غير ذلك من أن يكون بمعنى الاستثناء ، أو الخصوص والعموم ، أو المجمل، أو المفسر ، فمن الناسخ والمنسوخ بمعزل ، بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع، ولا منسوخ إلا الحكم المنفي الذي قد كان ثبت حكمه وفرضه. (٨)
سواء أكان الناسخ عندهم متصلا بالنص المنسوخ، كما في الاستثناء، والتقييد، أم كان منفصلا عنه متأخرا في النزول كما في رفع الحكم السابق كاملا (وهو النسخ عند الفقهاء والأصوليين)، وكما في رفع الحكم عن بعض ما يشمله العام إذا تأخر نزول المخصص (وهو النسخ الجزئي عند الحنيفية).
وقد أشار إلى ذلك غير واحد من العلماء والفقهاء :
يقول ابن تيمية : (والمنسوخ يدخل فيه في اصطلاح السلف العام : كل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح ، كتخصيص العام، وتقييد المطلق). (١)
ويقول ابن القيم : (ومراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ : رفع الحكم بجملته تارة ، وهو اصطلاح المتأخرين- ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر ، وغيرها تارة ، إما بتخصيص ، أو تقييد ، أو حمل مطلق على مقيد ، وتفسيره وتبيينه ، حتى إنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخا ؛ لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر ، وبيان المراد). (٢)
وممن نبه على ذلك أيضا : الشاطبي المالكي في (موافقاته). (٣)
قال الشاطبي: (وذلك أن الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين، فقد كانوا يطلقون على تقييد المطلق نسخا، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخا، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا- كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخا). (٤)
ويعد الإمام الشافعي أول من فرق في (الرسالة) بين النسخ وغيره من أساليب البيان ، فحرر معناه ، وميزه من الإطلاقات الواسعة التي دمج فيها.
يقول رحمه الله: (وليس ينسخ فرض أبدا ، إلا أثبت مكانه فرض ، كما نسخت قبلة بيت المقدس، فأثبت مكانها الكعبة ، وكل منسوخ في كتاب وسنة هكذا) (٥)؛ وقال أيضا: (ومعنى نسخه: ترك فرضه). (٦)
يقول رحمه الله: (وليس ينسخ فرض أبدا ، إلا أثبت مكانه فرض ، كما نسخت قبلة بيت المقدس، فأثبت مكانها الكعبة ، وكل منسوخ في كتاب وسنة هكذا) (٥)؛ وقال أيضا: (ومعنى نسخه: ترك فرضه). (٦)
ففسر النسخ بالترك، ثم قرر لازمه وهو أنه لم ينسخ فرض أبدا إلا أثبت مكانه فرض، فأفاد بمجموع الكلمتين أن النسخ يلزمه إثبات. فإذا نحن ضمنا إليه حديثه عن التخصيص بعد ذلك، واختياره المثال الذي ضربه له من المخصص المنفصل، وهو آيات اللعان بعد آي حد القذف. (٧)
أدركنا أن النسخ عنده إنما يراد به رفع الحكم الأول كله، وهذا عنده يقتضي إثبات غيره مكانه؛ أما رفع بعض الحكم الأول فهو عنده تخصيص العام، ولو انفصل عنه.
ومع أن الشافعي قد توفي أوائل القرن الثالث للهجرة، نجد أن نحو قرن من الزمان يمضي، دون أن يقدم لنا تعريفا للنسخ حتى إذا جاء في كلام الإمام الطبري رحمه الله في تفسيره (جامع البيان) ما يدل على هذا التفريق.
يقول أبو جعفر الطبري: (وقد دللنا في كتابنا كتاب (البيان عن أصول الأحكام) على أن لا ناسخ من آي القرآن ، وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا ما نفی حکم ثابت ، وألزم العباد فرضه ، غير محتمل بظاهره وباطنه غير ذلك ، فأما إذا ما احتمل غير ذلك من أن يكون بمعنى الاستثناء ، أو الخصوص والعموم ، أو المجمل، أو المفسر ، فمن الناسخ والمنسوخ بمعزل ، بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع، ولا منسوخ إلا الحكم المنفي الذي قد كان ثبت حكمه وفرضه. (٨)
ومنذ تمييز مصطلح النسخ عن غيره من المصطلحات ، والعلماء على مر العصور يحاولون تحديده ، وتعريفه تعریف جامع مانع.
والخلاصة: أن مفهوم النسخ عند السلف والمتقدمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، لم يكن مختلفا عن غيره من أساليب البيان ، بل كان مصطلحا واسعا يدخل تحته كل ماهو مبين للآية من تخصيص للعام ، وتقييد للمطلق ، وتبين للمجمل ، إضافة إلى المعنى الذي تقرر أخيرا ، بعد تحديد مصطلح النسخ عند الأصوليين.
المصادر والمراجع
(١) مجموع الفتاوي ، لشيخ الإسلام ابن تيمية (١٣-٢٧٢)؛ وانظر أيضا: ١٣-٢٩
(٢) إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن القيم (١-٣٥)
(٣) الموافقات ، إبراهيم بن موسی الشاطبي المالكي (۳-٣٤٤)
(٤) الموافقات ، الفقيه الأصولي الشاطبي المالكي (۳-٣٤٤)
(٥) الرسالة، محمد بن إدريس الشافعي (١٠٩)
(٦) الرسالة، الشافعي (١٠٩-١١٠)
(٧) الرسالة، الشافعي (١٤٧-١٥٠)
(٨) جامع البيان عن تأويل آي القرآن أو جامع البيان في تأويل القرآن المعروف بـ "تفسير الطبري (٢-٥٣٥)
(٢) إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن القيم (١-٣٥)
(٣) الموافقات ، إبراهيم بن موسی الشاطبي المالكي (۳-٣٤٤)
(٤) الموافقات ، الفقيه الأصولي الشاطبي المالكي (۳-٣٤٤)
(٥) الرسالة، محمد بن إدريس الشافعي (١٠٩)
(٦) الرسالة، الشافعي (١٠٩-١١٠)
(٧) الرسالة، الشافعي (١٤٧-١٥٠)
(٨) جامع البيان عن تأويل آي القرآن أو جامع البيان في تأويل القرآن المعروف بـ "تفسير الطبري (٢-٥٣٥)