مفهوم النسخ عند الأصوليين

مفهوم-النسخ-عند-الأصوليين


مفهوم النسخ عند الأصوليين: كان دور علماء الأصول حيال مبحث النسخ هو تقديم تصور نظري للمراد بالنسخ في الأدلة الشرعية، يحصل به التفريق بينه وبين ما يشترك معه أو ما يتشابه معه في وجود القدر المشترك من رفع لبعض مدلول الدليل الشرعي بواسطة دليل شرعي آخر، بحيث يحصل التمايز بين النسخ والتخصيص والتقييد وبيان المجمل ونحوها.

مفهوم النسخ عند الأصوليين


هذا التصور الذي قدمه الأصوليين لمفهوم النسخ، والذي تلقاه متأخرو علماء الناسخ والمنسوخ بالقبول، الأثر الكبير في تغير التطبيق لديهم، 

بحيث ضيقوا ذلك المفهوم المتقدم له عند المتقدمون، على وجه ظهر أثره في مؤلفاتهم وكان من تجلياته رد المتأخرين لكثير من الوقائع التي اعتبرها متقدمي علماء الناسخ والمنسوخ من قبيل النسخ.

ومع ذلك، لا يمكن الحديث عن مسائل مبحث النسخ في علم أصول الفقه ومفرداته على أساس أنها مسائل ومفردات متفق عليها.

ولاسيما مع ما مرت به المؤلفات الأصولية من تغير بحسب المسار التاريخي، وباعتبار اختلاف المناهج الأصولية، والبيئة التي نشأ فيها التعريف، والبواعث التي أملته، وأيضا: باعتبار اختلاف النظرة الأصولية لمبحث النسخ من حيث مكان إيراده وما ورد تحته من مفردات.

وإذا أردنا تجاوز مثل تلك التفاصيل الدقيقة والخلاف العائد إلى خلاف في مسائل أخرى، فيمكننا القول: بأن غالب کتب أصول الفقه كانت تدور حول تعريف النسخ، والنظر في الناسخ، والنظر في المنسوخ، ثم طرق معرفة النسخ.

ففي تعريف النسخ

نجد الأصوليين من يعرف النسخ بأنه بيان انتهاء مدة التعبد، مع التراخي، ومن يعرفه بأنه الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم، ومن يعرفه بأنه اللفط الدال على انتفاء شرط دوام الحكم الأول.

ومن يعرفه فيقول: هو أن يرد دليل شرعي متراخيا عن دليل شرعي مقتضيا خلاف حكمه؛ ومن يذهب في تعريفه إلى أنه رفع تعلق مطلق بحكم شرعي ابتداء.

ومن يضطرب فيحاول الجمع بين عدة اتجاهات في تعريفه (البيان، الخطاب، الإزالة، والرفع)؛ ومن يستوحي القرآن والسنة وكلام المتقدمين فيعرفه بأنه رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر عنه.

ومن ثم استلزم ذلك الحديث عن محترزات التعريف، إن بإشارات عابرة؛ كالتفريق بين النسخ ورفع البراءة الأصلية بثبوت الأحكام في الذمة، وهل يكون الموت نسخا؟ (١)؛ أو كان ذلك على وجه التفصيل كالتفريق بين النسخ والتخصيص (۲) وبقية أنواع البيان (٣)، 

أو كان ذلك بنصب الخلاف، وسوق أدلة المختلفين حول بعض القضايا التي ترجع في حقيقتها إلى تعريف النسخ، كما هو الحال في مسألة نسخ الأمر قبل التمكن من الامتثال (٤)، أو مسألة الزيادة على النص (٥)، ونسخ جزء العبادة أو شرطها. (٦)

وقد نجد الحديث عن حكم النسخ عند بعض الأصوليين، ولا نجده عند طائفة أخرى؛ إما لوضوح المسألة وانحسام بابها عندهم، أو لاعتبار بعضهم للخلاف الحاصل فيها خلافا لفظي!. (٧)

أما ما يتعلق بالناسخ

فقد تكلموا تحته عن اشتراط اعتباره من جنس المنسوخ، أو بمعنى آخر: هل يجري النسخ بين الكتاب والسنة بحيث ينسخ القرآن السنة؟ (٨) ؛ وكذلك العكس (٩): هل تكون الأدلة غير الكتاب والسنة كالإجماع والقياس والتنبيه ناسخة؟. (١٠)

وأيضا اعتبار الناسخ في قوة المنسوخ من حيث التواتر والآحاد (١١) ؛ والخلاف في جواز إثبات الناسخ لحكم أثقل من الحكم المنسوخ (١٢)، وهكذا النسخ إلى غير بدل (١٣)، وإذا نزل الناسخ فهل يكون نسخا في حق من لم يبلغه؟. (١٤)

أما ما يتعلق بالمنسوخ

فتكلموا تحته عن ما یسمی بوجوه النسخ. وكان حديثهم في هذا الموضع متوجها إلى نسخ القرآن الكريم؛ بحيث إن النسخ قد يكون نسخا لتلاوة الآية دون حكمها، أو نسخ لحكمها دون تلاوتها، أو نسخا لها معا. (١٥)

وكذلك تكلموا عن توجه النسخ للحكم الثابت بغير الكتاب والسنة، أي بالإجماع أو القياس والتنبيه (١٦)؛ وكذلك نسخ الأخبار (١٧)، ونسخ المقرون بكلمة التأبيد. (١٨)

أما ما يتعلق بطرق معرفة النسخ

فتكلموا تحته عن الطرق، والأوجه التي يعرف بها الناسخ من المنسوخ أو ما يسميه بعضهم بدلائل النسخ. (١٩)

المصادر والمراجع

(١) المستصفى في علم أصول الفقه (١-١۲۳)؛ وروضة الناظر، ابن قدامة الحنبلي (۱-٢٨٤)
(۲) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (۳-۱۱۳)، والمحصول في علم الأصول، فخر الدين الرازي (۳-۸)، وروضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة (۱-۲۸۹)، وشرح تنقيح الفصول في علم الأصول (۲۳۰)، والبحر المحيط (۹۹-۹)
(٣) تقويم الأدلة في أصول الفقه، أبو زيد الدّبوسيّ الحنفي (۲۲۱-۲۳۱)، وأصول الجصاص، المسمى الفصول في الأصول (۲-۲۲)، وكشف الأسرار شرح أصول البزدوي لعلاء الدين البخاري (۱۱۰-۳)
(٤) انظر في المراد بمسألة نسخ الأمر قبل التمكن من الامتثال، والأقوال فيها، وأدلتها في : شرح اللمع (۱-٤٨٠)، وإحكام الفصول (٤٠٩)، والأحكام للآمدي (۱۲۹-۳)، والعدة (۳-۸۰۸)، والمستصفی (۱-٢١٥)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (۱۳۹۱-۲)، وروضة الناظر (۱-۲۹۷)، وشرح تنقیح الفصول (۲۰۷).
(٥) انظر في مسألة الزيادة على النص، وأقسامها، وأقوال العلماء في كل قسم، وأدلتهم في : شرح اللمع (۱٥١٩)، وإحكام الفصول (٤٠٠)، والمستصفی (۱-۲۲۲)، والمحصول (۳-۳۹۳)، والإحكام للآمدي (۱۷۰-۳)، وروضة الناظر (۱٣٠٥).
(٦) انظر في المراد بمسألة نسخ جزء العبادة أو شرطها، وخلاف العلماء فيها، وعلاقتها بمسألة الزيادة على النص في: شرح اللمع (١-٥٢٤)، والمستصفی (۱-۲۲۱)، وروضة الناظر (۳۱۱-۱)، ومختصر ابن الحاجب مع شرح العضد (۲۰۳-۲ )، والمسودة (۲۱۲)
(٧) مسألة: (حكم النسخ جوازا ووقوعا) في: التبصرة (٢٥١)، المستصفى (۲۱۳-۱)، والمحصول (۲۹۹-۳)، والإحكام للآمدي (۳-۱۷۲)، وروضة الناظر (۲۹۲-۱)، وشرح تنقیح االفصول (۳۰۳)، والإبهاج (۱۰۸٤-۲)، وجمع الجوامع مع شرح المحلي (۲-۸۸)، وشرح الكوكب المنير (۳-٥۰۳)، إرشاد الفحول (۳۱۳)
(٨) انظر هذه المسألة وما جرى فيها من كلام بين الأصوليين في الرسالة (۱۰٤)، وتقويم الأدلة (۲۳۹)، والعدة (۸۰۲-۳)، والبرهان (۲-۲٥۳)، والمستصفی (۱-۲۳۹)، والمحصول (۳-۳٤۷)، وروضة الناظر (۲۳۱- ۱)، والبحر المحيط (٤-١٠٩)
(٩) أي نسخ السنة للقرآن، انظر هذه المسألة في: الرسالة (١٠٤)، والمستصفی (۱-۲۳۹)، والإحكام للآمدي (٣-١٤٦)، ومختصر ابن الحاجب مع شرح العضد (٢-١٩٥)، والبحر المحيط (٤-١١٨)، وشرح الكوكب المنير (٣-٥٥٩).
(١٠) المستصفی (۱-۲۳۹)، والمحصول (٣-٣٥٤،٣٦١)، وروضة الناظر (۱-۳۳۰،۳۳۹)، والبحر المحيط (٤-۱۲۸-۱۹۲)
(١١) أي: هل نسخ القرآن و متواتر السنة بأخبار الآحاد؟ بعض الأصوليين يذكر هذه المسألة كأحد شروط النسخ، ويقول: إن من شروطه أن يكون الناسخ أقوى من المنسوخ أو مثله، فإن كان أضعف فلا ينسخ؛ لأن الضعيف لا يزيل القوي ولا يرفعه. انظر في هذه المسألة: المعتمد (۳۹۸-۱)، والعدة (٣-۷۸۸)، والتبصرة (۲۹٤)، والمستصفی (۱-۲٤۰)، والإحكام للآمدي (۲۰۹-۳)، وروضة الناظر (۱-۳۲۷)، والمسودة (۲۰۲).
(١٢) انظر الخلاف في هذه المسألة وأمثلتها في: المعتمد (۱-۳۸۵)، والعدة (3-۷۸۵)، والمستصفی في أصول الفقه (۱-۲۲۷)، والإحكام للآمدي (۳-۱۳۷)، وروضة الناظر (۱-۳۱۵٥)، وشرح تنقیح الفصول (۳۰۸)، والبحر المحيط (٤-٩٥).
(١٣) انظر هذه المسألة والخلاف فيها في: شرح اللمع (٤٩٣)، والبرهان (۲۰۷/ ۲)، والعدة (۳-۷۸۳)، والمحصول (۳-۳۱۹)، والإحكام للآمدي (۳-۱۳۰)، وروضة الناظر (۳۱۳--۱)، وشرح تنقیح الفصول (۳۰۸)، والمسودة (۱۹۸)، والبحر المحيط.(۹۳-۹)
(١٤) انظر كلام الأصوليين في هذه المسألة وما وقع بينهم فيها من خلاف في: البرهان (۲-۲٥۹)، والعدة (٣-۸۲۳)، والتمهيد لأبي الخطاب (۲-۳۹۰)، والمستصفى (۲۲۹-۱)، والإحكام للآمدي (۱۹۸-۳)، وروضة الناظر (۳۱۸-۱)، والمسودة (۲۲۳)، وتيسير التحریر (۳-۲۱۷)
(١٥) انظر في مسألة (وجوه النسخ) في: المعتمد (۳۸۹-۱)، والعدة (۳-۷۸۰)، والمستصفى (۱-۲۳٤)، والمحصول (۳-۳۲۲)، والإحكام للآمدي (٣-١٤١)، وروضة الناظر (1-۲۹٤)، وشرح تنقیح الفصول (۳۰۹)، والمسودة (۱۹۸)، و مختصر ابن الحاجب مع شرح العضد (٢-١٩٤)، والبحر المحيط (٤-١٠٣)
(١٦) انظر: المستصفی (۱/ ۲۳۹)، والمحصول في علم الأصول، للرازي (٣-٣٥٤،٣٦١)، وروضة الناظر (۱-۳۳۰،۳۳۹)، والبحر المحيط ( ۶٤-۱۲۸،۱٤۲).
(١٧) انظر في مسألة نسخ الأخبار وتفصيلات الأصوليين فيها وما جرى بينهم من خلاف في بعض جزئیاتها في: المعتمد (۱-۳۸۷)، والعدة (۳-۸۲۰)، والمحصول (۳-۳۲۰)، والإحكام للآمدي (٣-١٤٤)، وجمع الجوامع مع شرح المحلي وحاشية البناني (۲-٨٥)، والإبهاج (۱۱۱٤-۲)، والبحر المحيط (٤-۹۸)، وشرح الكوكب المنير (٣-٥٤١)، وتيسير التحریر (۱۹۹-۳ )
(١٨) انظر في مسألة نسخ المقرون بكلمة التأبيد في: أصول الجصاص (۲-۲۰۸)، والمعتمد (۱-۳۸۲)، والبرهان (۱۱۱٤-۲)، والبحر المحيط (٤-۹۸)، وشرح الكوكب المنير (٣-٥٤١)، وتيسير التحریر (۱۹۹-۳).
(١٩) انظر كلام الأصوليين عن تلك الطرق في: المعتمد (١-٤١٦)، والعدة (۸۲۹-۳)، والمستصفى (١-٢٤٤)، والمحصول (۳-۳۷۷)، والإحكام للآمدي (۳-۱۸۱)، وروضة الناظر (۱-۳۳۷)، وشرح تنقیح الفصول (۳۲۱)، والمسودة (۲۳۰)، والبحر المحيط (٤-١٠٢)، وشرح الكوكب المنير (٣-٥٦٣)
أحدث أقدم