المجاز في اللغة
اختلف العلماء في وقوع المجاز في اللغة على قولين:
ذهب جمهور الأصوليين وأهل اللغة والبلاغة وبعض العلماء من المنتسبين إلى السنة إلى وقوع المجاز في لغة العرب؛ وقالوا أن كلام العرب من شعر ونثر ملئ بالمجاز.
وذهب بعض العلماء إلى القول بعدم وقوع المجاز ، ونقل هذا عن أبو إسحاق الإسفراييني وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، ونسبه بعضهم إلى أبي علي الفارسي، إلا أن السيوطي والشوكاني أنكروا نسبة هذا القول لأبي علي الفارسي.
المعنى اللغوي للنسخ عند جمهور الأصوليين
يذكر اللغويين لمادة النسخ في اللغة معنيين تدور بين النقل والتحويل، والرفع والإزالة. (١)
وهكذا يمضي المؤلفون في الناسخ والمنسوخ حين يفسرون النسخ لغة؛ ليردوا المصطلح الشرعي إلى أصله، فهم يذكرون جميع معاني النسخ دون أن يُعْنوا عادة ببيان حقيقتها ومجازيها، أو يقتصرون من هذه المعاني على ما يرون أنه الأصل للمصطلح الأصولي، كما فعل ابن سلامة (المتوفى: ٤١٠هـ) في كتابه الناسخ والمنسوخ حين يقتصر على معنى واحد للنسخ فيقول:(أعلم أن النسخ في كلام العرب هو الرفع للشئ). (٢)
أما الأصوليون فيُعنون غالبا ببيان المعنى الحقيقي للكلمة، وقد يعجزهم الوقوف على هذه المعني فيحكمون بأن جميع معانيها حقيقة، وأنها من المشترك. أو يحكمون بأن جميع معانيها مجازية، وأنها كلمة شرعية عبرّ القرآن عن المراد منها بمادة أخرى هي التبديل.
وقد وقع خلاف في المعنى اللغوي للنسخ عند جمهور الأصوليين أي المعنيين السابقين هو المعنى الحقيقي للنسخ في اللغة وأيهما هو المجاز فيه؟. (٣)
ولهم في ذلك مذاهب منها :
المذهب الأول : النسخ حقيقة في الإزالة مجاز في النقل وهو مذهب: مكي بن أبي طالب، أبو الحسين البصري المعتزلي، والعسكری الدقاق، وهبة الله بن سلامة ، والحسن البصري ، وفخر الدين الرازی، والبيضاوی وابن الهمام، وحكاه الصفي الهندي الأشعري عن أكثر أهل الأصول. (٤)
المذهب الثاني: النسخ حقيقة في النقل مجاز في الإزالة من تسمية الأخص باسم الأعم وهذا مذهب القفال الشاشي من الشافعية، والزمخشری المعتزلي وأبي جعفر النحاس.
المذهب الثالث: أنه مشترك لفظي فیهما وأن له وضعين مختلفين ، وضعا بمعنى الإزالة وآخر بمعنى النقل ، والأصل في الإطلاق الحقيقة وهو مذهب القاضي أبو بكر الباقلاني الأشعري، والقاضی عبد الوهاب، والغزالي ومال إليه الآمدي. (٥)
رابعا : أن النسخ حقيقة في معنى أعم هو الرفع وهو القدر المشترك بين الإزالة والنقل ويكون مشتركا معنويا فيهما ، وقيل القدر المشترك هو التغيير کما صرح به الجوهري، وهو مذهب ابن المنیر الأشعري.
خامسا: قال السرخسي : هو مجاز في كل من الإزالة والنقل وهو حقيقة شرعية نقل من اللغة كما نقل معنى الصلاة و الدعاء إلى الصلاة الشرعية المفروضة . قال السرخسي ؛ بعد أن ذكر إطلاق النسخ على كل من النقل والإزالة: ( وكان ذلك مجاز .... واذا كان اسم النسخ شرعيا معلوما بالنص لجعله عبارة عما يكون معلوما بالنص أیضا يكون أولى الوجوه) . (٦)
أدلة كل فريق منهم
أ- أدلة من قال أنه حقيقة في الإزالة مجاز في النقل :
احتج هؤلاء بأن قول القائل (نسخت الكتاب) مجاز في النقل لأن ما في الكتاب لم ينقل حقيقة وإذا كان النسخ مجازا في النقل لزم أن يكون حقيقة في الإزالة لأنه غير مستعمل في سواهما . فإذا بطل كونه حقيقة في أحدهما تعين أن يكون حقيقة في الآخر وإلا لم يكن له حقيقة في اللغة أصلا. (٧)
وقالوا أيضا: أن النقل أخص من الإزالة لأن النقل إعدام صفة وإيجاد صفة أخرى مكانها بينما الإزالة هي مطلق الإعدام ، فهي أعم من إعدام يحل عقيبة شيء آخر ، وإذا دار اللفظ بين العام والخاص كان جعله حقيقة في العام أولی من جعله حقيقة في الخاص ، لأن العام فيه تكثير للفائدة وفي الخاص تقليل لها والتكثير أولی. (٨)
ب - أدلة من يرى أن النسخ حقيقة في النقل :
أن لفظ النسخ قد كثر استعماله في النقل وقل استعماله في الإزالة فجعله حقيقة فيما كثر استعماله فيه ومجازا في ما قل استعماله فيه أولی؛ لأن الحقيقة أكثر من المجاز ولا يصح جعله حقيقة فيهما معا دفعا للاشتراك اللفظي لأن فيه تعدد الوضع والقول بوضع واحد أولى من القول بتعدده، فيكون أولى أن يجعل حقيقة في أحدهما من أن يجعل مشتركا فيكون حقيقة فيما كثر استعماله فيه وهو النقل ومجازا في الإزالة .
ج - دليل القول بأن النسخ مشترك لفظي فیهما :
قالوا: أن النسخ قد أطلق على كل من الإزالة والنقل وليس بينهما قدر مشترك حتى يكون مشتركا معنويا وليس هناك مرجح لكونه حقيقة في أحدهما دون الآخر . فتعين أن يكون مشتركا لفظيا فيهما لأنه أطلق عليهما معا والأصل في الإطلاق الحقيقة.
وقالوا أيضا: أن المتبادر إلى الذهن عند سماع اسم النسخ المعنيان معا والتبادر علامة الحقيقة فيكون النسخ حقيقة في الإزالة والنقل معا إذ لا مرجح لأحدهما وليس هناك قدر مشترك بينهما.
د - دليل القائلين أنه مشترك معنوي :
قالوا : أن بين قول العرب (نسخت الشمس الظّل) وقولهم (نسخت الكتاب) قدر مشترك هو الرفع أو التغيير فلما تساويا في هذا القدر صار النسخ مشتركا بينهما اشتراكا معنويا وهو مقدم على الاشتراك اللفظي لأن في الأخير تعدد الوضع بكلمة واحدة والأصل عدمه ولأن القدر المشترك معلوم وهو الرفع أو التغيير فيكون النسخ مشتركا معنويا بین النقل والإزالة .
مناقشة الأدلة جمهور الأصوليين
أجاب القائلون بأنه حقيقة في الإزالة على أدلة من قال أنه حقيقة في النقل بأن كثرة الاستعمال لا تدل على الحقيقة فهناك من الكلمات ما يستعمله الإنسان عادة حتى نسي أصلها ومنها الغائط مثلا فإنه حقيقة في المكان المنخفض مجاز في الخارج ومثله النهر فإنه حقيقة في المجرى المحفور مجاز في الماء الجاري وقد شاع استعمال المجاز حتى كادت الحقيقة أن تنسی .
ثم إن النسخ قد أطلق على كل من النقل والإزالة فترجيح النقل بدون مرجع تحكم والتحكم باطل فلا يكون حقيقة فيه دون الإزالة؛ وأيضا فإن الإزالة أعم فكان حمله عليها أولى تكثيرا للفائدة .
الإجابة على القائلين بالاشتراك :
وأجابوا على من قال بالاشتراك اللفظي بأن في الاشتراك اللفظي تعدد الوضع بكلمة واحدة وهو خلاف الأصل فلا يقال به إلا اذا انعدم المرجح أو القدر المشترك والمرجح موجود وهو كون الإزالة أعم من النقل . فيحمل عليها دفعا للاشتراك .
وأجابوا على أدلة القائلين بالاشتراك المعنوي :
بأن قولكم أن القدر المشترك هو الرفع غیر مسلم لأنه وإن تحقق في الإزالة فهو غيرهم محقق في النقل لما في الكتاب فإنه لم يرفع بل هو باق . وكذلك التغيير قد يتحقق في الإزالة دون الرفع لأن ما في الكتاب لم يتغير بل نقلت منه نسخة وبقى الأصل كما كان .
وعلى هذا فلا يكون هناك قدر مشترك بين الإزالة والنقل فبطل القول بأن النسخ مشترك معنوي.
ومما تقدم قالوا: أن الراجح من هذه المذاهب الأول ، لأن القاعدة في الأصول أنه إذا دار اللفظ بين الاشتراك و المجاز قدم المجاز لكثرته في اللغة وقلة الاشتراك ، ولأن استعمال اللفظ في المعنى الأعم فيه تثكير للفائدة .
ثمرة الخلاف عندهم
ذهب كثير من الأصوليين إلى أن الخلاف في هذه المسألة لفظي لا يترتب عليه كثير فائدة ولكن ذكر الزرکشی عن ابن برهان أن الخلاف معنوي وفائدته تظهر في أن القائل بأن النسخ حقيقة في الإزالة أجاز النسخ إلى غير بدل.(٩)
ومن قال هو حقیقة في النقل لم يجزه إلى غير بدل. وقال أمير بادشاه الحنفي: (أن هذا القول فيه ما فيه). (١٠)
وقالوا: أن هذا الخلاف اللغوي لا يترتب عليه فائدة عملية في علم الأصول ، وإنما ذكر المعنى اللغوي لبيان المناسبة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي ، لأن الاصطلاحي منقول من اللغوي.
المصادر والمراجع
(١) مقاييس اللغة (٥-٤٢٤)، وانظر أيضا تاج اللغة وصحاح العربية، للجوهري (٤٣٣/١)، ولسان العرب (٦١/٣)
(٢) الناسخ و المنسوخ من القرآن العظيم، لابن سلامة (٩١)
(٣) انظر خلاف الأصوليين في هذه المسألة في أصول الجصاص المسمى الفصول في الأصول (٢-١٩٢)، وﺍﳌﻌﺘﻤﺪ ﰲ ﺃﺻﻮﻝ ﺍﻟﻔﻘﻪ ﻷﰊ ﺍﳊﺴﲔ ﺍﳌﻌﺘﺰﱄ (١-٣٦٤)، وأصول السرخسي (٢-٥٥)، المستصفى من علم الأصول، للغزالي (١-٢٠٧)، و المحصول في علم أصول الفقه، للرازي (٣-٢٠٨)، والإحكام في أصول الأحكام، للآمدي (٣-١٠٢)، والإبهاج في شرح المنهاج (٢-١٠٨١)
(٤) البحر المحيط، في أصول الفقه، بدر الدين الزرکشي (٤-٦٣)
(٥) الإحكام في أصول الأحكام، لسيف الدين الآمدي (۲-۲۳۷)
(٦) أصول السرخسي (٢-٥٤)
(٧) ﺍﳌﻌﺘﻤﺪ ﰲ ﺃﺻﻮﻝ ﺍﻟﻔﻘﻪ ﻷﰊ ﺍﳊﺴﲔ ﺍﳌﻌﺘﺰﱄ (١-٣٩٤)
(٨) المحصول في علم أصول الفقه، لفخر الدين الرازي (١-١٧٣)
(٩) البحر المحيط، في أصول الفقه، بدر الدين الزرکشي (٢-٢٠٨)
(١٠) تيسير التحرير، شرح كتاب التحرير، لأمير بادشاه الحنفي (٣-١٧٨)
(٢) الناسخ و المنسوخ من القرآن العظيم، لابن سلامة (٩١)
(٣) انظر خلاف الأصوليين في هذه المسألة في أصول الجصاص المسمى الفصول في الأصول (٢-١٩٢)، وﺍﳌﻌﺘﻤﺪ ﰲ ﺃﺻﻮﻝ ﺍﻟﻔﻘﻪ ﻷﰊ ﺍﳊﺴﲔ ﺍﳌﻌﺘﺰﱄ (١-٣٦٤)، وأصول السرخسي (٢-٥٥)، المستصفى من علم الأصول، للغزالي (١-٢٠٧)، و المحصول في علم أصول الفقه، للرازي (٣-٢٠٨)، والإحكام في أصول الأحكام، للآمدي (٣-١٠٢)، والإبهاج في شرح المنهاج (٢-١٠٨١)
(٤) البحر المحيط، في أصول الفقه، بدر الدين الزرکشي (٤-٦٣)
(٥) الإحكام في أصول الأحكام، لسيف الدين الآمدي (۲-۲۳۷)
(٦) أصول السرخسي (٢-٥٤)
(٧) ﺍﳌﻌﺘﻤﺪ ﰲ ﺃﺻﻮﻝ ﺍﻟﻔﻘﻪ ﻷﰊ ﺍﳊﺴﲔ ﺍﳌﻌﺘﺰﱄ (١-٣٩٤)
(٨) المحصول في علم أصول الفقه، لفخر الدين الرازي (١-١٧٣)
(٩) البحر المحيط، في أصول الفقه، بدر الدين الزرکشي (٢-٢٠٨)
(١٠) تيسير التحرير، شرح كتاب التحرير، لأمير بادشاه الحنفي (٣-١٧٨)