أهمية علم النسخ

أهمية-علم-النسخ

أهمية علم النسخ


يعتبر علم الناسخ والمنسوخ من العلوم التي اعتنى بها العلماء حفظا ، ونظرا ، وفهما ، وبحثا  وتأصيلا ؛ لأنه علم لا يسع كل من تعلق بأدنى علم من علوم الديانة جهله.

فعلم الناسخ والمنسوخ من أهم الموضوعات وأجلها قدرا في الشريعة الإسلامية، لأن مدار هذا الدين كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فما ثبت فيهما محكما غير منسوخ عملنا به وما كان منسوخا منهما لم نعمل به.

أهمية موضوع الناسخ والمنسوخ


ومن هنا: فإن معرفة علم الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم أمر عظيم والجهل به أمر خطير، فالعلم به فائدته عظيمة لما له من الأهمية الكبرى في معرفة الأحكام الشرعية ، خصوصا إذا ما وجدت نصوص متعارضة لا يندفع التناقض بينها إلا بمعرفة ناسخها من منسوخها والجهل به على عكس ذلك.

ولأهمية علم الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم كانت عناية الصحابة والتابعين والسلف الصالحين بمعرفته، فألف فيه علماء كثيرون ليتجنب العمل بما نسخ من الأحكام ويعمل بالمحكم منه.

وقد وردت آثار من السلف ومن بعدهم تدل على عظم هذا العلم، و أهمية علم النسخ، وأنه لا يجوز لأحد أن يفتي أو يجتهد في أمر من أمور الدين فضلا عن أن يفسر القرآن الكريم قبل أن يعرف الناسخ والمنسوخ؛ واشترطوا العلم بالناسخ والمنسوخ في كل من ينصب للفتوى أو الاجتهاد، كي لا يثبت حكما منسوخا أو يلغي حكما مثبتا.

الأدلة على أهمية النسخ


فمن ذلك ما ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه دخل مسجدا بالكوفة فإذا رجل يحدث الناس -يعظهم- فأرسل إليه: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ فقال: لا. قال: فأخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه، وفي رواية قال: هلكت وأهلكت. (١) 

وذكر عن حذيفة رضي الله عنه أن قال: (إنما يفتي الناس أحد ثلاثة : من عرف الناسخ والمنسوخ، قالوا:  ومن يعرف ذلك؟ قال:  عمر ، أو رجل ولى سلطانا فلا يجد بُدْا من ذلك ، أو متكلف). (٢)

وسئل الإمام مالك : (لمن تجوز الفتوى؟ قال: لا تجوز الفتوى إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه. قيل له: اختلاف أهل الرأي؟ قال: لا، اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وعلم الناسخ والمنسوخ من القرآن ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك يُفتى). (٣)

وقال الشافعي: (لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلا عارفا بكتاب الله بناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، وتأويله وتنزيله ، ومكيه ومدنيه ، وما أريد به ، ويكون بعد ذلك بصيرا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبالناسخ والمنسوخ (يعنى السنة)، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن. (٤)

وتتأكد أهمية النسخ إذا علمنا أن معرفة الكثير من الأحكام الشرعية ، متوقفة على معرفته، والعلم به، وأن هناك أحكام شرعية قد رفعت ولم يعد العمل بها قائما، وأن هذا العلم سبيل مطروق لدرء التعارض الظاهري بين نصوص الشرع.

يقول يحيى بن أكثم التميمي (٢٤٢هـ): (ليس من العلوم كلها علم هو أوجب على العلماء وعلى المتعلمين، وعلى كافة المسلمين من علم ناسخ القرآن ومنسوخه؛ لأن الأخذ بناسخه واجب فرضاً والعمل به واجب لازم ديانة، والمنسوخ لا يعمل به ولا ينتهى إليه، فالواجب على كل عالم، علم ذلك لئلا يوجب على نفسه وعلى عباد الله أمراً لم يوجبه الله، أو يضع عنهم فرضاً أوجبه الله). (٥)

وقال القرطبي المالكي: (معرفة هذا الباب أكيدة وفاىدته عظيمة، لا يستغنى عن معرفته العلماء ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء، لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام ومعرفة الحلال من الحرام). (٦)

ولهذا شدد العلماء في التحذير من القول فيه بغير علم ، ولا يقين.

يقول ابن حزم الظاهري: (لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول في شيء من القرآن والسنة: هذا منسوخ إلا بيقين، لأن الله - عز وجل - يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) (٧) ،وقال تعالى: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) (٨)، فكل ما أنزل الله في القرآن، وعلى لسان نبيه فرض اتباعه.

فمن قال في شيء من ذلك: إنه منسوخ، فقد أوجب أن لا يطاع ذلك الأمر وأسقط لزوم اتباعه، وهذه معصية لله تعالى مجردة، وخلاف مكشوف إلى أن يقوم برهان على صحة قوله، وإلا فهو مفتر مبطل). (٩)

جواز النسخ عقلا ووقوعه شرعا


وهذا العلم لم ينكره إلا فئة قليلة.

قال أبو جعفر النحاس في مقدمة كتاب الناسخ والمنسوخ فيهم: (تكلم العلماء من الصحابة، والتابعين في الناسخ والمنسوخ، ثم اختلف المتأخرون فيه، فمنهم من جرى على سنن المتقدمين، فوُفِّق، ومنهم من خالف ذلك، فاجتنب، فمن المتأخرين من قال: ليس في كتاب الله عز وجل ناسخ ولا منسوخ، وكابر العيان، واتبع غير سبيل المؤمنين). (١٠)

قال ابن الجوزي في نواسخ القرآن: (انعقد إجماع العلماء على هذا ـ يعني أن في القرآن منسوخًا ـ إلا أنه قد شذّ من لا يلتفت إليه). (١١)

وقال شعلة: (أجمع المسلمون على جواز النسخ إلا ما حكى عن شذوذ من متأخريهم، فإنهم منعوا جوازه). (١٢)

وقال ابن كثير : (والمسلمون كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام الله تعالى، لما له في ذلك من الحكم البالغة، وكلهم قال بوقوعه. وقال أبو مسلم الأصبهاني المفسر: لم يقع شيء من ذلك في القرآن، وقوله هذا ضعيف مردود مرذول. وقد تعسف في الأجوبة عما وقع من النسخ) . (١٣)

وقال الطاهر بن عاشور المالكي: (وقد اتفق علماء الإسلام على جواز النسخ ، ووقوعه . ولم يخالف في ذلك إلا أبو مسلم الأصفهاني محمد بن بحر ، فقيل : إن خلافه لفظي). (١٤)

قال القاضي أبو بكر ابن العربى المالكي: (لقد أجمع المسلمون على جواز النسخ ووقوعه فعلا ؛ خلافا لليهود الذين أنكروه ... والآيات القرآنية في جواز النسخ عديدة). (١٥)

وقال محمد أمين الشنقيطي رحمه الله: (لا خلاف بين المسلمين في جواز النسخ عقلاً وشرعاً ، ولا في وقوعه فعلاً . ومن ذكر عنه خلاف في ذلك كأبي مسلم الأصفهاني - فإنه إنما يعني أن النسخ تخصيص لزمن الحكم بالخطاب الجديد). (١٦)

وقال ابن عثيمين رحمه الله: (ثبوت النسخ ، وأنه جائز عقلا، وواقع شرعا؛ وهذا ما اتفقت عليه الأمة إلا أبا مسلم الأصفهاني). (١٧)

المصادر والمراجع

(١) رواه النحاس في الناسخ والمنسوخ ، باب الترغيب في الناسخ والمنسوخ (١-٤٠٩)؛ ابن الجوزي في نواسخ القرآن ، فضيلة علم الناسخ والمنسوخ (١٠٤)؛ الاعتبار في الناسخ والمنسوخ في الحديث، أبو بكر الحازمي الهمذاني (٥٠)؛ مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، أبو الحسن نور الدين علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي (٦٩٥) ؛ قال: رواه الطبراني في الكبير وفيه أبو راشد مولى بنى عامر ولم أر من ذكره.
(٢) الناسخ والمنسوخ، أبو النحاس في الناسخ والمنسوخ ، الترغيب في الناسخ والمنسوخ (١-٤١٥)؛ نواسخ القرآن ، فضيلة علم الناسخ والمنسوخ والأمر بتعلمه، ابن الجوزي (١٠٩)؛ الاعتبار في الناسخ والمنسوخ في الحديث (٤٩)؛ المصنف لعبد الرزاق (٢٠٤٠٥)؛ موسوعة آثار الصحابة (٧٣٠١)؛ الفقيه والمتفقه ، الخطيب البغدادي (١٠٤٧)؛ أخرجه الدرامي من طريق هشام ابن سيرين عن حذيفة، وفي رواية عن أبي عبيدة بن حذيفة (٣٥)؛ وفيه: (أو أحمق متكلف).
(٣) جامع بيان العلم وفضله ، ابن عبد البر المالكي (١٥٢٩)
(٤) الفقيه والمتفقه ، الخطيب البغدادي (٢-١٠٤٧)؛ إعلام الموقعين عن رب العالمين، شرط الإفتاء عند الشافعي، ابن القيم (١-٣٧)
(٥) جامع بيان العلم وفضله ، ابن عبد البر المالكي (١-٧٦٧)
(٦) التفسير المسمى الجامع لأحكام القرآن (١-٤٧٨)
(٧) سورة الحج، الآية: ٦٤
(٨) سورة الأعراف، الآية: ٣
(٩) الإحكام في أصول الأحكام (٤-٨٣)
(١٠) الناسخ والمنسوخ، أبو جعفر النحاس، مقدمته
(١١) نواسخ القرآن، إثبات أن في القرآن منسوخا
(١٢) صفوة الراسخ في علم المنسوخ والناسخ (٥٢-١١٢)
(١٣) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ، سورة البقرة، الآية ١٠٧
(١٤) التحرير والتنوير (١-٤٣٢)
(١٥) الناسخ والمنسوخ (٣)
(١٦) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (٣-٧٤)
(١٧) تفسير القرآن الكريم (٣٤٨) ، سورة البقرة ، الآية: ١٠٦، تفسير قوله تعالى: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)
أحدث أقدم