النسخ لا يقع في الأخبار

النسخ-لا-يقع-في-الأخبار

أقسام الكلام


ينقسم الكلام بإعتبار إمكان وصفه بالصدق وعدمه إلى قسمين: خبر وإنشاء.
 
  • فالخبر: ما يمكن أن يوصف بالصدق أو الكذب لذاته. 
  • والإنشاء: ما لا يمكن أن يوصف بالصدق أو الكذب ومنه الأمر والنهي.
  • وقد يكون الكلام خبرا إنشاءا باعتبارين؛ كصيغ العقود اللفظية.
  • وقد يأتي الكلام بصورة الخبر والمراد به الإنشاء، وبالعكس؛ لفائدة. (١)

الأخبار


الأخبار جمع خبر، والخبر هو ما يحتمل الصدق والكذب لذاته، فخرج بقولنا: (ما يحتمل الصدق والكذب لذاته) الإنشاء لأنه لا يمكن فيه ذلك، فإن مدلوله ليس مخبرا عنه حتى يمكن أن يقال : صدق أو كذب.

وخرج بقولنا: (لذاته) الخبر الذي لا يحتمل الصدق أو لا يحتمل الكذب باعتبار المخبر به، وذلك أن الخبر من حيث المخبر به ثلاثة أقسام. (٣)

أقسام الخبر من حيث المخبر به


  • ما لا يمكن وصفه بالكذب ، كخبر الله ورسوله الثابت عنه.
  • ما لا يمكن وصفه بالصدق ، كالخبر عن المستحيل شرعا وعقلا : كالخبر عن اجتماع الضديين.
  • ما يمكن أن يوصف بالصدق والكذب ؛ إما على السواء، أو مع رجحان أحدهما، كإخبار عن قدوم غائب ونحوه. (٣)

النسخ لا يقع في الأخبار


والمراد بالأخبار في هذه القاعدة: هي الأخبار التي لا تقع إلا على وجه واحد، أو الأخبار التي لا تقبل التغيير، فهذا لا يدخله النسخ إجماعا. (٥)

قال الخطيب البغدادي: (ما أخبر الله تعالی عنه من أخبار القرون الماضية، والأمم السالفة، فلا يجوز فيها النسخ، وهكذا ما أخبر عن وقوعه في المستقبل كخروج الدجال، ويأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عیسی ابن مريم إلى الأرض ونحو ذلك، فإن النسخ فيه لا يجوز). (٦)

ووجه هذه القاعدة: أن دخول النسخ على الأخبار يفضي إلى تكذيبها، وهذا محال في أخبار الله، وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم. (٧)

وأما الأخبار التي لها مدلول يتغير: كالإخبار عن إيمان زيد، وكفره: فلا يجوز نسخه أيضا على قول جماهير أهل العلم من الأصوليين، وهو قول الشافعية (٨) ، والمالكية (٩)، والحنابلة (١٠).

وخالف فيه القاضي أبو يعلى (١١)، وفخر الدين الرازي (١٢)، حيث قالوا: يجوز نسخ ذلك.

واحتجوا بالقياس على تخصيص الخبر، قالوا: فكذلك نسخه، كما نسخت أخبار الوعيد في حق بعض من يستحقها.

وأجيب عن ذلك: بأن التخصيص يخالف النسخ، وأن جواز العفو عن مرتكبي الكبائر من باب التكرم والفضل لا من باب النسخ.

قال ابن السمعاني: (والصحيح أنه لا يجوز النسخ في الأخبار بوجه ما؛ لأنه يؤدي إلى دخول الكذب في أخبار الله تعالى وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم ، وذلك لا يجوز. فإن قال قائل: ما قولكم في الأخبار الواردة في الوعيد المرتكبي الكبائر ؟ قلنا: يجوز العفو عنها.

قالوا: فهذا نسخ. قلنا: هذا ليس بنسخ؛ إنما هو من باب التكرم والعدول عن المتوعد بالفضل. وقد يتكلم المتكلم بالوعيد وهو لا يريد إمضاءه، ولا يعد ذلك خٌلفا، بل يعد عفوا وکرما). (١٣)

وأما القسم الأخير من أقسام الأخبار فهو: الأخبار التي تشتمل على أحكام: كقوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) (١٤)؛ فقوله  تعالى: (يَتَرَبَّصْنَ) بصورة الخبر، والمراد بها الأمر (١٥) 

وقوله تعالى: (وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَٰجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍۢ وَعَشْرًا)، فهو خبر بمعنى الأمر ، وقوله تعالى: (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)، وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: (الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةَ)، فإنَّ مثل هذه الأخبار وغيرها أريد بها الإنشاء فهي قابلة للنسخ ونسخ ألفاظها.

فجماهير أهل العلم على أنه يدخلها النسخ؛ لأنها کالأوامر وإن وردت بصورة الخبر. (١٧)

ونقل الإسنوي عن ابن برهان أنه جائز بلا خلاف. (١٨)

قال الصفي الهندي الأشعري: (فهذا يجوز نسخه، ولا يعرف فيه خلاف، ولا يتجه فيه الخلاف؛ لأنه بمعنى الأمر والنهي).(١٩)

قال ابن عثيمين: (يمتنع النسخ فيما يلي: الأخبار لأن النسخ محله الحكم، ولأن نسخ الخبرين يستلزم أن يكون أحدهما كذبا، والكذب مستحيل في أخبار الله ورسوله، اللهم إلا أن يكون الحكم أتى بصورة الخبر. فلا يمتنع نسخه). (٢٠)

وقال السيوطي: (لا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي ، ولو بلفظ الخبر . أما الخبر الذي ليس بمعنى الطلب فلا يدخله النسخ ، ومنه الوعد والوعيد؛ وإذا عرفت ذلك عرفت فساد صنع من أدخل في كتب النسخ كثيرا من آيات الإخبار والوعد والوعيد). الإتقان في علوم القرآن (٢ـ٧٠٢)  

وحكي عن أبي بكر الدقاق من الشافعية أنه منع دخول النسخ فيها تغليبا لحكم الخبر على معنى الأمر. (٢١)

قال الشيرازي: (وهذا غير صحيح؛ لأن المراد بهذا الأمر، ولا يجوز أن يكون المراد بها الخبر؛ لأنا نرى من يمس المصحف على غير طهارة، ورأينا من يطلق ولا يتربص ثلاثة قروء، ولو كان ذلك خبرا لأدى إلى وقوعه بخلاف مخبره ، ولا يجوز ذك في خبر الله عز وجل). (٢٢)
 
من فروع هذه القاعدةالنسخ لا يقع في الأخبار
 
  • المحاسبة بما في النفوس.
  • الرؤيا الصالحة جزء من النبوة.
  • انتفاع الإنسان بعمل غيره.

الخلاصة:

لا خلاف بين العلماء في جواز نسخ الخبر الذي أريد به الإنشاء، أي الخبر الذي يكون بمعنى الأمر والنهي مثل قوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾، فإنَّ مثل هذه الأخبار وغيرها أريد بها الإنشاء فهي قابلة للنسخ ونسخ ألفاظها.

أمَّا مدلول الخبر إن كان ممَّا لا يمكن تغييره بأن لا يقع إلَّا على وجه واحدٍ باعتبار ما كان وما يكون: كأخبار الآخرة والجنَّة والنَّار، وصفات الله تعالى، وما كان عليه أمر الأنبياء والأمم وما يكون: كقيام الساعة وآياتها، فلا يجوز نسخه بحال قولًا واحدًا لا يختلفون فيه؛ لأنَّ القول بنسخه يفضي إلى الكذب وذلك مستحيل على الوحي.

أمَّا إذا كان مدلول الخبر ممَّا يصحُّ تغييره بأن يكون وقوعه على غير الوجه المخبر عنه، ماضيًا كان أو مستقبلًا، أو خبرًا عن حكم شرعي أو وعدًا أو وعيدًا فهو محلّ خلاف بين العلماء، وما عليه جمهور الفقهاء والأصوليِّين عدم دخول النسخ في الأخبار مُطلقًا، وذهب أبو عبيد الله وأبو الحسين البصريان والفخر الرازي إلى جوازه مُطلقًا، وهو اختيار تقي الدِّين بن تيمية وبعض الحنابلة، ومالت طائفة من العلماء إلى تفصيل المسألة مع اختلافهم في نوع التفصيل، واختار بعضهم تفصيلًا وجهه: أنَّ النسخ في الأخبار ممنوع مُطلقًا ولكن إن ثبت بالخبر حكم من الأحكام جاز نسخه وعليه بعض المالكية.

هذا، والنسخ إنَّما يدخل الأحكامَ الشرعية العملية التكليفية، فلا يتناول النسخُ الأحكامَ المتعلّقة بالاعتقادات وأصول الدين.

المصادر والمراجع

(١) شرح الأصول من علم الأصول - أقسام الكلام - الخبر والإنشاء - ابن عثيمين
(٢) شرح الأصول من علم الأصول - أقسام الكلام - الخبر والإنشاء - ابن عثيمين
(٣) شرح الأصول من علم الأصول - أقسام الكلام - الخبر والإنشاء - ابن عثيمين
(٤) قواطع الأدلة في الأصول لابن السمعاني (۸۷-۳)؛ إحكام الفصول في أحكام الأصول ، أبو الوليد الباجي (١-٤٠٥)، شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول، أحمد بن إدريس القرافي المالكي (۲٤۲) ، الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي (۱۷۸-۳)، نهاية الوصول للصفي الهندي الأشعري (۲۳۱۷-۷ ) ، تفسير البحر المحيط (٤-٨٩) ، التحبير شرح التحرير للمرداوي (۳۰۱۰- ٦)
(٥) نهاية الوصول للصفي الهندي الأشعري (۲۳۱۷-۷ ) ، البحر المحيط، الزركشي (٤-٨٩) ، التحبير شرح التحرير للمرداوي (۳۰۱۰- ٦)
(٦) الفقيه والمتفقه (١-٢٥٥،٢٥٦) ، وانظر : شرح اللمع في أصول الفقه للإمام الشيرازي (۲-٤٨٩)
(٧) قواطع الأدلة في الأصول، السمعاني (٣-٨٧)
(٨) شرح اللمع في أصول الفقه (١-٤٩٠)؛ البحر المحيط، الزركشي (٤-٨٩)
(٩) شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول، القرافي المالكي (۲٤۲)؛ إحكام الفصول في أحكام الأصول ، أبو الوليد الباجي (١-٤٠٥)
(١٠) مختصر التحرير، شرح الكوكب المنير، ابن النجار الحنبلي (٣-٥٤٣)
(١١) العدة في أصول الفقه (٣-٨٢٥)
(١٢) المحصول في علم أصول الفقه (۳-۳۲۰) .
(١٣) قواطع الأدلة في الأصول (٨٨-۳)
(١٤) سورة البقرة، الآية ۲۲۸
(١٥) شرح الأصول من علم الأصول (١١٧)
(١٦) سورة البقرة، الآية ٢٣٤
(١٧) نسبه ابن السمعاني للأكثرين في قواطع الأدلة (۹۰-۳)
(١٨) نهاية السول شرح منهاج الوصول، عبد الرحيم بن الحسن بن علي الإسنوي الشافعيّ (٥۷۷-۲)
(١٩) نهاية الوصول في دراية الأصول للصفي الهندي (۲۳۱۸/ ۷ )
(٢٠) شرح الأصول من علم الأصول - باب النسخ - ما يمتنع نسخه
(٢١) ممن حكى الخلاف عنه : ابن السمعاني في القواطع (۹۰-۳)، وأبو إسحاق الشيرازي في شرح اللمع (٤۸۹/۱) .
(٢٢) شرح اللمع (٤۹۰/ ۱)
أحدث أقدم