شروط النسخ عند الأصوليين

شروط-النسخ

شروط النسخ


قبل الشروع في ذكر شروط النسخ في القرآن يجدر بنا تعريف الشرط لأن الحكم على الشئ فرع عن تصور معنى الشرط فنقول الشرط : ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، ويكون خارجاً عن ماهية ذلك الشيء. (١)

وقد اتفق الأصوليون على بعض الشروط التي يجب توفرها ليصح النسخ، واختلفوا في البعض الآخر.

شروط النسخ المتفق عليها


فأما الشروط المعتبرة في ثبوت النسخ المتفق عليها عند الأصوليين فهي:

١ - أن يكون الحكم المنسوخ شرعيا لا عقليا أصليا، بمعنى أنه ثبت بالشرع ثم رفع، فرفع الإباحة الأصلية ليس نسخا عند الجمهور؛ فإذا كان حكما عقليا فلا نسخ؛ لأن رفع الحكم العقلي ليس من النسخ في شئ، وذلك كرفع البراءة الأصلية بشرعية العبادات ابتداء فإن ذلك لا يسمى نسخا. (٢)
 
٢ - أن يكون الناسخ منفصلا عن المنسوخ متأخرا (متراخا) عنه (٣)، وهذا لازم للرفع ، فإن الرفع يقتضي أن يثبت حكم على المكلفين أولا، ثم يأتي بعد ذلك الدليل الدال على ارتفاع ذلك الحكم، فإذا نزل حكم ونزل معه ما يقصره على بعض مدلوله ، لا يكون ذلك نسخا، وإنما هو تخصيص.

فالمخصصات المقترنة كالشرط والصفة ، وما ماثلهما عند الشافعية، والاستثناء والغاية لا يسمى نسخا ؛ وكذلك التخصيص بالدليل المستقل المقارن باتفاق.

فإذا لم يعلم التقدم أو التأخر، فلا يصار إلى النسخ، فلا ينسخ حكم شرعي بخطاب نزل قبله، ولا بخطاب صدر معه، ولا بمتأخر عنه في النزول دون فاصل زمني يمكن فيه العمل بالمنسوخ وامتثاله.

وكذلك المخصصات المنفصلة المقترنة التي أتت عقب العام ، وكذلك المخصصات المتأخرة التي لم يعمل فيها بالعام قبل مجيئها عند غير الحنيفية.
 
٣ - أن يكون دليل رفع الحكم دليلا شرعيا (٤) من الكتاب والسنة، فارتفاع الحكم بموت المكلف أو جنونه ليس بنسخ لأنه ارتفاع بالعقل.

وترتب على اشتراط أن يكون الحكم دليلا شرعيا من الكتاب والسنة النبوية أن لا نسخ إلا في عصر الرسالة؛ لأنه العصر الذي كان ينزل فيه الوحي (٥)، ويتلقى فيه السنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهما كل ما يصدق عليه خطاب الشارع.

فلا سلطة لإنسان في حكم مهما بلغ علمه، إلا الرسول صلى الله عليه وسلم فهو المتلقي لأحكام الله تعالى، والمبلغ لها، وعلى هذا لا يكون الإجماع ناسخا، لأنه لم يحتج إليه، ولم يكن دليلا شرعيا، إلا بعد وفاة الرسول، وبعد وفاته ينقطع النسخ لأنه تشريع، والتشريع ينقطع بوفاته.

والنسخ لا يقع، ولا يجوز أن يقع إلا في عصر الرسالة ولا يصلح كذلك النسخ بالقياس لأن القياس إنما يعتبر فيما لا نص فيه وحيث وجد الدليل الشرعي بطل القياس المخالف له. (٦)
 
٤ - أن لا يكون المنسوخ مقيدا بوقت معين يقتضى دخوله زوال المغيا بغاية فلا يكون نسخا عند وجودها (٧)؛ ولذلك لم تكن إباحة الإفطار يوم الفطر وما بعده نسخا لصيام رمضان. (٨)
 
٥ - أن لا يكون المنسوخ حكما مؤبدا ، ولا حكما مؤقتا (٩)؛ فالنصوص التي تضمنت أحكاما شرعية ودلت بصيغتها على التأبيد لا تقبل النسخ، كقوله تعالى في بيان حكم قاذفي المحصنات: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (١٠)؛ فإن تأبيدها يمنع نسخها؛ لأنها تدل على أن الحكم الدائم لا يزول.

وكذلك الحكم المؤقت لا يقبل النسخ؛ لأن المؤقت ينتهى بانتهاء وقته دون حاجة إلى النسخ.
 
٦ - أن يكون بين الدليلين تعارض (١١)، ونعنى به التعارض الظاهري للنصوص مع عدم إمكان الجمع بين المتعارضين ، أما التعارض الحقيقي فلم يقع قطعا، لأن وقوعه يعنى التناقض، والشارع منزه عن ذلك ، ومع إمكان الجمع فلا نسخ، لإمكان العمل بكل منهما. (١٢)
 
٧ -: أن يكون مما يجوز نسخه ، فلا يقع النسخ على الأخبار (١٣)؛ لأن المعول فيها على صدق المخبر أو كذبه، فإذا كان صادقا قبلت ، وإن كان كاذبا ردت، وأخبار القرآن والسنة لا يتصور وقوعها على خلاف ما أخبرت به.

وكذا الأحكام التي تكون مصلحة في كل زمان ومكان: كالتوحيد وأصول الإيمان، وأصول العبادات، ومكارم الأخلاق، من الصدق، والعفاف، والكرم ، والشجاعة، ونحو ذلك، فلا يمكن نسخ الأمر بها. (١٤)

وكذلك لا يمكن نسخ النهي عما هو قبيح في كل زمان ومكان: كالشرك والكفر، ومساوئ الأخلاق؛ من الكذب والفجور والبخل والجبن، ونحو ذلك، إذ الشرائع كلها لمصالح العباد ودفع المفاسد عنهم. (١٥) (١٦)

وكذلك القواعد الكلية فإن النسخ لم يقع فيها أيضا، ويدل على ذلك الاستقراء التام.

يقول الشاطبي المالكي:  (النسخ لا يكون في الكليات ، وقوعا ، وإن أمكن عقلا . 
 
ويدل على ذلك الاستقراء التام ، وأن الشريعة مبنية على حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينيات ، وجميع ذلك لم ينسخ منه شيء ، بل إنما أتى بالمدينة ما يقويها ، ويحكمها ، ويحصنها ، وإذا كان كذلك لم يثبت نسخ لكلي ألبتة ، ومن استقرأ كتب الناسخ والمنسوخ تحقق هذا المعنى فإنما يكون النسخ في الجزئيات). (١٧)
 
٨ -: العلم بتأخر الناسخ، ويعلم ذلك إما بالنص ، أو بخبر الصحابي، أو بالتاريخ. (١٨)

الشروط المختلف فيها

 
وﻫﻨاك شروط ﻗﺪ اﺧﺘﻠﻒ اﻟﻌﻠماء فيها ﻫﻞ ﻫﻮ شرط ﻟﻠﻨﺴﺦ أم ﻻ؟ إلا أن المحققين منهم نفوها وهو الصحيح.

أما الشروط المختلف فيها في أصول الفقه فهي:

١ - أن يكون الناسخ مساويا للمنسوخ في قوة ثبوته ودلالته ووجوب العمل به، أو أقوى منه، وعلى هذا لا يمكن نسخ الدليل المتواتر إلا بمتواتر مثله ، لتساويهما.

اشترط الجمهور أن يكون الناسخ أقوى من المنسوخ أو مماثلا له ، فلا ينسخ المتواتر عندهم بالآحاد، وإن كان ثابتا؛ والأرجح أنه لا يشترط أن يكون الناسخ أقوى أو مساويا ، لأن محل النسخ الحكم، ولا يشترط في ثبوته التواتر. 
 
والصحيح أنه ينسخ ما دام ثابتا.

أما إذا لم يكن ثابتا ، فمن المعلوم أن ما ليس بثابت لا يقوى أن يكون حجة ، فضلا على أن يبطل غيره. (١٩)

٢ - أن يكون الناسخ والمنسوخ من جنس واحد فلا ينسخ القرآن إلا بالقرآن ولا السنة إلا بالسنة وجزم به الشافعي وبعض أصحابه وأكثر أهل الظاهر والجمهور على خلاف ذلك.

٣ - كون الناسخ أخف من المنسوخ أو مثله في المشقة فلا يجوز النسخ بالأثقل هذا قول البعض والراجح خلافه.

٤ - اشتراط البعض أن يرد الناسخ بعد التمكن من امتثال الأمر المكلف به وهم المعتزلة وأكثر الحنيفية وبعض الحنابلة والصيرفي من الشافعية وأكثر الفقهاء وأصحاب الشافعي على خلافه.

٥ - اشترط البعض أن يكون الناسخ والمنسوخ متقابلين مقابلة الأمر بالنهي والمضيق بالموسع والحق خلافه.

المصادر والمراجع

(١) أصول الفقه ، القرآن ، السنة
(٢) كشف الأسرار شرح أصول البزدوي، علاء الدين البخاري الحنفي (٣ـ١٦٩)؛ نسخ وتخصيص وتقييد السنة النبوية للقرآن الكريم ، دراسة نظرية تطبيقية، تعريف النسخ وبيان المحترزات (٦٠)؛ الإحكام في أصول الأحكام، سيف الدين الآمدي المتوفى سنة 631 هـ (٢-٢٤٥)؛ المعتمد في أصول الفقه، الطيب البصري المعتزلي (١ـ٣٩٩)؛ إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، محمد الشوكاني (١٨٦)؛ نواسخ القرآن، ابن الجوزي (١١٨)؛ الكافل بنيل السول في علم الأصول (٢١٩)
(٣) المعتمد في أصول الفقه (١ـ٣٩٩)؛ الإحكام في أصول الأحكام (٣-١٦٤)؛ المستصفى في علم أصول الفقه، أبو حامد الغزالي الصوفي الشافعي الأشعري (١-١٢٢)
(٤) المستصفى في علم أصول الفقه (١-١٢٢)؛ الإحكام في أصول الأحكام، سيف الدين الآمدي (٣-١٦٤)؛ هداية العقول إلى غاية السؤل في علم الأصول (٢-٤٠٧)؛ الكافل بنيل السول في علم الأصول وشرحه (٢١٨)؛ إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، محمد الشوكاني (١٨٦)؛ نواسخ القرآن، ابن الجوزي (١١٨) ؛ رسالة الناسخ والمنسوخ ( بهامش الجلالين): 2، 161
(٥) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي (٣ـ٣٦١)؛ إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول (١٦٩)؛ معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة (٢٥٦)
(٦) نثر الورود شرح مراقي السعود، محمد الأمين الشنقيطي (١-٣٤٣،٣٤٤)
(٧) البحر المحيط في أصول الفقه، محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي (٤-٧٨)
(٨) المستصفى في علم أصول الفقه (١-٢٣٢)؛ الواضح في أصول الفقه (١-٢٢٣)
(٩) الإحكام في أصول الأحكام (٣-١٦٤)؛ النسخ في القرآن الكريم (١-٣٥،١٦١)
(١٠) سورة النور، الآية ٤
(١١) الإحكام في أصول الأحكام (٣-١٦٤)؛ الاعتبار (١١،١٢)؛ شرح الكوكب المنير على مذهب الامام احمد بن حنبل الشيباني (٣-٥٢٩)؛ العدة (٣ـ٨٣٥)؛ نواسخ القرآن، ابن الجوزي (١١٧)؛ المسودة في أصول الفقه، ابن تيمية (٢٢٩)
(١٢) شرح الأصول من علم الأصول، ابن عثيمين (٤٢٤)
(١٣) إلا إذا أريد بالخبر الإنشاء.
(١٤) شرح الأصول من علم الأصول، ما يمتنع نسخه، ابن عثيمين (٤٢٠)
(١٦) البحر المحيط (٤-٩٨)؛ الفقيه والمتفقه (١-٨٥)؛ الاستقامة لابن تيمية (١-٢٣)؛ شرح الكوكب المنير (٣-٥٤٣)؛ نثر الورود شرح مراقي السعود، محمد الأمين الشنقيطي (١-٣٥٢)
(١٧) الموافقات للشاطبي المالكي (٣-١١٧)
(١٨) شرح الأصول من علم الأصول (٤٢٢)
(١٩) شرح الأصول من علم الأصول (٤٢٦)
أحدث أقدم