الفروق بين النسخ والبداء

الفروق-بين-النسخ-والبداء

إن الخلط بين النسخ والبداء قد دفع بقوم (١) إلى إنكار النسخ وعدم وقوعه، فهم يرون أن النسخ يستلزم البداء وهو محال على الله تعالى، لذلك كان لابد من بيان الفرق بين النسخ والبداء؛ ليتجلى إمكانية وقوع النسخ، واستحالة وقوع البداء في خطاب الشارع.

فأحببنا أن نبين في هذا المقال مفهوم النسخ والفروق بينه وبين مصطلحات مقاربة كالبداء والتخصيص، والإنساء، والتقييد، والاستثناء، والتعليق، ورفع الإباحة الأصلية لأن هذه المصطلحات يبدو من ظاهرها أنها أقرب إلى النسخ ولكن لو نظرنا بدقة فنجد هناك فروقا واضحا بينها وبين النسخ و أيضا ولها تأثير على الأحكام. (٢)

معنى النسخ لغة


النسخ لغة: يدور لفظ النسخ في اللغة حول معان عدة (٣)، منها:

1- نقل الشئ وإثباته في مكان آخر مع بقاء الأصل كقولك نسخت الكتاب، إذا نقلت ما فيه إلى کتاب آخر ومنه قوله تعالى: (هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤)، أي: هذا كتابنا الذي أنزلنا عليكم، يفصل بينكم بالحق الذي هو العدل، {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } فهذا كتاب الأعمال. (٥)

2- الإزالة كقولهم نسخ الشيب الشباب إذا أزاله وحل محله، ونسخت الريح آثار القوم إذا أبطلته وعفت عليها، ومنه قوله تعالى : (فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦) أي: يزيله ويذهبه ويبطله، ويبين أنه ليس من آياته. (٧)

النسخ اصطلاحا


هو رفع حكم شرعي ، أو لفظه، بدليل من الكتاب أو السنة. (٨)

البداء لغة


يدور لفظ البداء لغة حول معان (٩) منها :

1- الظهور بعد الخفاء ومنه قوله تعالى: (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) (١٠)  أي : وظهر لهم من الله من العذاب والنكال بهم ما لم يكن في بالهم ولا في حسابهم. (١١)

2- التجدد في الرأي: ومنه قولهم: فلان ذو بدوات: أي ذو أراء تظهر له فيختار بعضا ويسقط بعضا. وبدأ لي بدءا: أي تغير رأي. وبدأ له في الأمر: أي نشأ له فيه رأي. (١٢) فالبداء: هو استصواب شئ علم بعد أن لم يعلم. (١٣) أو هو الرأي المتجدد. (١٤)

ونستطيع القول من المعنى اللغوي أن البداء يطلق على معنيين متقاربين بعيدين عن النسخ تماما.

والبداء بالمعنيين السابقين يستلزم حدوث العلم بعد سبق الجهل وهذا محال على الله تعالى؛ فالأدلة العقلية والنصوص القطعية تدلان على استحالة ذلك في حق الله عز في علاه وأن الله سبحانه وتعالى لا يخفي عليه شئ في الأرض ولا السماء. 

قال الله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ۖ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ ۖ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ). (١٥)

الفرق بين النسخ والبداء


فالنسخ يخالف البداء في حقيقته لأن النسخ رفع الحكم (١٦) فهو أمر أو نهي، والأمر والنهي ليسا من البداء بسبيل (١٧)  لأن البداء ظهور ما كان خفيا (١٨)  وليس بأمر أو نهي. 

فإن قيل إن النسخ يستلزم البداء، لأنه يستلزم العلم بعد الجهل، لأن الناسخ إنما بدل الحكم أو رفعه لظهور شيئ له بعد خفائها.

وهذا باطل في حق الله تعالى، لأن الله سبحانه وتعالى محيطٌ بكل شيء علماً، يعلم ما كان وما يكون لو كان، كيف كان ويكون، ويعلم ما ظهر وما بطن. (١٩)

فالنسخ لا يفضي إلى إضافة أمر مستحيل إلى الله تعالى بخلاف البداء فإنه يفضي إلى إضافة أمر مستحيل إلى الله تعالى وهو الجهل (٢٠) لذلك كان النسخ جائزا على الله تعالى وامتنع من ذلك البداء. (٢١)

ولما خفي الفرق بين النسخ والبداء على اليهود والرافضة، منعت اليهود من النسخ في حق الله تعالی، وجوزت الروافض البداء لاعتقادهم جواز النسخ على الله تعالی.

 فلزم اليهود على ذلك إنكار نسخ الشرائع، ولزم الروافض على ذلك وصف الله عز في علاه بالجهل مع أن النصوص القطعية على استحالة ذلك في حقه تعالى، وأنه لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء، ومنها: 

  • قوله تعالى: (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). (٢٣) 
  • وقوله تعالى: (عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ). (٢٤) 
  • وقوله تعالى: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ). (٢٥)
  • وقوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ). (٢٦)

الفروق بين النسخ والبداء


وبناء على ما سبق يمكن تلخيص الفروق بين النسخ والبداء (٢٧) في النقاط التالية: 

أولا : النسخ لا يكون إلا من الله جل وعلا، فهو وحده الذي يملك رفع الأحكام. بخلاف البداء فلا يكون إلا من المخلوقين ، ولا يجوز ذلك على الله تعالی.

ثانيا : النسخ يعلم الأمر فيه علما أزليا ما يكون عليه هذا الأمر عند صدوره للمكلفين، بخلاف البداء فلا يعلم الأمر فيه من أمره شيئا إلا عند صدوره وقد يأمر بالشيء ثم يتبين له الخطا فيه؛ فيعدل عنه لظهور عدم المصلحة في الأمر الأول.

ثالثا : النسخ يعلم الأمر أنه سيرفعه عن العباد في وقت كذا إلى بدل آخر هو كذا، أو إلى غير بدل؛ فالشارع يعلم الحكم المنسوخ، وأمده، ويعلم أيضا الحكم الذي سيحل محله؛ بخلاف البداء فإن صاحبه لا يعلم متى ينتهي العمل به؟ وهل سيلغيه إلى غيره؟ كل هذا غيب بالنسبة لصاحب البداء .

المصادر والمراجع

(1) أنكر النسخ النصارى جميعا وطائفة من اليهود وهم الشمعونية وذهبوا إلى امتناعه عقلا وسمعا، وأما العنانية وهي طائفة من اليهود فقد منعوا من وقوع النسخ سمعا وأجازوه عقلا، وكذا أبو مسلم الأصفهاني المعتزلي من المسلمين.
(٢) مفهوم النسخ والفرق بينه وبين مصطلحات مقاربة، تاج الدين الأزهري (٣-٩)
(٣) القاموس المحيط، مادة نسخ (۲۷۱-۱)؛ لسان العرب مادة نسخ (٦-٤٤٠٧)؛ المصباح المنير، مادة نسخ (۲-۸۲۷)؛ تاج العروس، مادة نسخ (۲-۲۸۲)
(٤) سورة الجاثية، الآية ۲۹
(٥) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، السعدي (٢٦-٧٧٨)
(٦) سورة الحج، الآية ٥٢
(٧) تفسير السعدي (١٧-٥٤٢)
(٨) الأصول من علم الأصول ، ابن عثيمين (٤٧)
(٩) لسان العرب، مادة بدا (۱-۲۳٤)؛ القاموس المحيط مادة بدا (۳۰۲-٤)
(٩) سورة الزمر - الآية ٤٧
(١٠) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ، تفسير سورة الزمر، الآية ٤٧ ، المجلد الرابع، الصفحة ٦٢
(١٢) لسان العرب، مادة بدا، (١٤-٦٥،٦٦)
(١٣) لسان العرب، مادة بدا، (١٤-٦٦)
(١٤) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشيقيطي، (٣-٣٢٨)،مكتبة ابن تيمية، القاهرة
(١٥) سورة سبإ، الآية ٣
(١٦) الوصول إلى الأصول، علي بن برهان البغدادي (٢-١٢) ،مكتبة المعارف الرياض
(١٧) المعتمد في أصول الفقه، أبو الحسين محمد بن علي البصري المعتزلي (١-٣٦٨) ،دار الكتب العلمية، بيروت
(١٨) الوصول إلى الأصول (٢-١٢)
(١٩) المناهي اللفظي، موقع ابن عثيمين رحمه الله
(٢٠) الأحكام في أصول الأحكام، علي بن محمد الآمدي، (٣-١٢٢)؛ أضواء البيان (٣-٣٢٨)، المعتمد في أصول الفقه (١-٣٦٨)
(٢١) يقول ابن حزم : "فإن قال قائل: ما الفرق بين البَداء والنَّسخ؟ قيل له - وبالله تعالى التوفيق : الفرق بينهما لائح، وهو أن البَداء أن يأمر بالأمر، والآمِر لا يدري ما يؤول إليه الحال، والنَّسخ: هو أن يأمر بالأمر والآمِر يدري أنه سيحيله في وقت كذا، ولا بد قد سبق ذلك في علمه وحتمه من قضائه، فلما كان هذان الوجهان معنيينِ متغايرين مختلفين، وجب ضرورة أن يعلق على كل واحد منها اسمٌ يعبَّر به عنه غيرُ اسم الآخر؛ ليقع التفاهم ويلوح الحق؛ فالبَداء ليس من صفات الباري تعالى، ولسنا نعني الباء والدال والألف، وإنما نعني المعنى الذي ذكرنا من أن يأمر بالأمر لا يدري ما عاقبته، فهذا مبعد من الله عز وجل، وسواء سموه نسخًا أو بَداءً أو ما أحبوا، وأما النَّسخ فمن صفات الله تعالى من جهة أفعاله كلها، وهو القضاء بالأمر قد علم أنه سيحيله بعد مدة معلومة عنده عز وجل، كما سبق في علمه تعالى"الإحكام في أصول الأحكام (٤-٤٧١)
(٢٢) الأحكام في أصول الأحكام (٣-١٢١)
(٢٣) سورة الحديد، الآية: ٣
(٢٤) سورة المؤمنون، الآية: ٩٢
(٢٥) سورة الانعام، الآية: ٥٩
(٢٦) سورة الحديد، الآية: ٢٢
(٢٧) الإحكام لابن حزم (٤۷۱-٤)؛ الإحكام للآمدي (۳-۱٥۸) اللمع (٣١)؛ حاشية البناني على شرح جمع الجوامع (۲-۸۸) البرهان (۱۳۰۱-۲) العدة (٣- ۷۷٤) المعتمد (۱-۳۹۸) النسخ بين الإثبات والنفي (۱۳٥،١٤١) : ناسخ القرآن ومنسوخه لابن الجوزي (۱۰۷ ، ۱۰۸)
أحدث أقدم