النسخ َلا يستلزم البداء

النسخ -لا-يستلزم-البداء-القرآن

النسخ َلا يستلزم البداء


اتفق العلماء على تنزيه الله تعالى عن البداء؛ لأنه وصف يوجب النقص والله تعالى منزه عن جميع النقائص، وعلمه شامل محيط لا يعتريه الجهل والنسيان، وتعالى الله عما يصفون. 

وإذا كان الله تعالى يفعل ما يشاء ويختار بعلمه السابق، فله أن يأمر عباده بما يشاء وينهاهم عما يشاء في الوقت الذي يشاء، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، ولا ملزم يلزمه برعاية مصالح عباده.

وعليه، النسخ َلا يستلزم البداء أو الجهل في حق الله تعالى (١)، بل إن الربط بين النسخ والبداء لا يقوم على أساس علمي؛ 

لأن تأقيت الحكم بوقت ثم رفعه والإتيان ببدل منه لأجل معلوم كل ذلك يكون في علم الله تعالى منذ الأزل، ولا يتغير علم الله فيه قبل التشريع أو أثناءه أو بعد النسخ.

 وما ينسخه الله تعالى من الأحكام ويثبته إنما هو على قدر المصالح لا أنه يبدو له من الأحوال ما لم يكن بادية. 

والبداء في ذلك للبشر وليس لله تعالى؛ لأن البشر هم الذين لا يعلمونه إلا بعد حصوله، سيما وأن الأمر بالشيء في النسخ يكون في وقت ثم النهي عنه يكون في وقت آخر وعلى وجه آخر. 

ومعلوم أن البداء لا يكون بداء إلا عند اعتبار أمور: أن يكون المكلف واحدا، والفعل واحدا،  والوقت واحدا،  والوجه واحدا، ثم يرد الأمر بعد النهي أو النهي بعد الأمر.

ولا بد من اعتبار هذه الأمور الأربعة، ولو تغاير واحد من هذه الأمور الأربعة خرج عن كونه بداء (٢). 

لذلك لا يلزم من تجويز النسخ القول بتجويز البداء على الله تعالى؛ لأنه لا يعدو عن كونه بیانا لمدة الحكم الأول على نحو ما سبق في علم الله تعالى ونقلا للعباد من عبادة إلى عبادة ومن حكم إلى حكم لضرب من المصلحة إظهارا لحكمته وكمال ربوبيته.

وبهذا، يتبين لنا أن إنكار نسخ الشرائع عند اليهود بدعوى أن النسخ يلزم منه القول بالبداء هو حجة باطلة. 

وإن كان ظاهر كلامهم أنهم ينزهون الله تعالى عن البداء ولا يقولون به؛ ذلك أنهم ينسبون إلى الله تعالى في كتبهم ما هو أشنع من القول بالبداء. 

إذ جاء في أسفارهم الكثير من النصوص التي تنفي علمه تعالی بما يكون حتى يكون، ويفهم منها صراحة نسبة البداء إليه (٣)، بل أشد منه.

فقد وصفوا الرب جل وعلا بالجهل والندم والتأسف على ما يصدر منه من أفعال لا يعلم عاقبتها فيتراجع عنها، وهو لا شك من تحريفاتهم، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. 

وهناك نصوص كثيرة من الكتاب المقدس تصور الرب سبحانه وتعالى بأنه يخطئ ويندم في مواضع كثيرة لا تعد ولا تحصى:

جاء في سفر التكوين: (ورأى الله كل ما عمله؛ فإذا هو حسن جدا). (٤)

فهل كان الله تعالى يخلق ولم يكن يعلم أنما يخلقه حسنا أم لا؟ حتى بدا له بعد ذلك أن ما عمله حسن جدا، 

وجاء فيه أيضا: (ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم، فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسف في قلبه، فقال الرب: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقه، الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء، لأني حزنت أني عملتهم. (٥)

وفي سفر الخروج: (وقال الرب لموسى رأيت هذا الشعب وإذا هو شعب صلب الرقبة. فالآن اتركني ليحمى غضبي عليهم وافنيهم، فاصيرك شعبا عظيما. فتضرع موسى أمام الرب إلهه؛ وقال لماذا يا رب يحمى غضبك على شعبك الذي أخرجته من أرض مصر بقوة عظيمة ويد شديدة. لماذا يتكلم المصريون قائلين أخرجهم بخبث ليقتلهم في الجبال ويفنيهم عن وجه الأرض؛ ارجع عن حمو غضبك وأندم على الشر بشعبك. اذكر إبراهيم وإسحاق وإسرائيل عبيدك الذين حلفت لهم بنفسك وقلت لهم أكثر نسلكم كنجوم السماء وأعطي نسلكم كل هذه الأرض الذي تكلمت عنها فيملكونها إلى الأبد؛ فندم الرب على الشر الذي قال أنه يفعله بشعبه. (٦)

وفي سفر أخبار الأيام الأول: (وأرسل الله ملاكا على أورشليم لإهلاكها، وفيما هو يهلك رأى الرب فندم على الشر، وقال للملاك المهلك: كفى الآن، رد يدك). (٧)

وفي سفر صموئيل الأول: (وكان كلام الرب إلى صموئيل قائلا: ندمت على أني قد جعلت شاول ملك؛ لأنه رجع من ورائي ولم يقم كلامي، فاغتاظ صموئيل وصرخ إلى الرب الليل كله). (٨)

وفي سفر إرميا: (تارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالقلع والهدم والإهلاك، فترجع تلك الأمة التي تكلمت عليها عن شرها فأندم عن الشر الذي قصدت أن أصنعه بها، وتارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالبناء والغرس، فتفعل الشر في عيني فلا تسمع لصوتي فأندم عن الخير الذي قلت إني أحسن إليها به). (٩)

وفي نفس السفر: (أنت تركتني، يقول الرب، إلى الوراء سیژ، فأمد يدي علي وأهلك، مللت من الدامة). (١٠)

وهكذا، يتبين لنا بوضوح أن القول بالبداء في أصله عقيدة يهودية كما تنبئ بذلك أسفارهم، وليس غرضنا هنا الاستقصاء بل التمثيل. (١١)

فهذه النصوص تصف الرب جل وعلا بالجهل وأنه يخطئ ويندم ويتأسف على ما يصدر منه من أفعال لا يعلم عاقبتها فيتراجع عنها، 

والسؤال الذي يبتنى على ذلك هو: ماذا يقول اليهود الذين ينكرون النسخ تنزيها لله تعالى عن البداء في هذه النصوص، وهم ينسبون إليه سبحانه وتعالى ما هو أشنع من البداء؟ مما يؤيد ما ذهب إليه الأصوليين أن ما يعلنونه من دوافع لإنكار النسخ ليس هو دافعهم الحقيقي.

فإن إنكار النسخ ليس غاية عندهم ، ولكنه وسيلة فحسب؛ أما الغاية فهي إنكار رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، على الإطلاق ، فإن أعجزهم إدراك هذه الغاية - فلا أقل من إنكار أنهم مطالبون بتصديقه ، واتباعه فيما جاء به .

المصادر والمراجع

(١) كشف الأسرار شرح أصول البزدوي، علاء الدين البخاري الحنفي (۳-۲۳۹-۲٤۰)
(٢) شرح الأصول الخمسة، القاضي، عبدالجبار بن أحمد المعتزلي (۳۹)
(٣) الوشيعة في نقض عقائد الشيعة، موسى جار الله (۱۱۳)
(٤) الإصحاح (۱)، الفقرة (۳۱)
(٥) سفر التكوين، الإصحاح (٦)، الفقرات (٥-٧)
(٦) سفر الخروج، الإصحاح (۳۲)، الفقرات (١-١٤)
(٧) الإصحاح (۲۱)، الفقرة (١٥)
(٨) الإصحاح (۱۰)، الفقرات (۱۱۰۱۰)، وينظر: الإصحاح (۱۰)، الفقرة (۳۰)
(٩) سفر إرميا، الإصحاح (۱۸)، الفقرات (۷-۱۰)
(١٠) سفر إرميا، الإصحاح (۱۰)، الفقرة (٦)
(١١) للوقوف على المزيد من النصوص، ينظر: سفر التكوين؛ الإصحاح (۱)، الفقرات: (۱۰-۱۲)، والفقرات: (۱۸، ۲۱)، وغيرها
أحدث أقدم