موقف اليهود من النسخ عند الأصوليين

موقف-اليهود-من النسخ-عند-الأصوليين

موقف اليهود من النسخ عند الأصوليين


موقف اليهود من النسخ عند الأصوليين: لما كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة لسائر الرسالات ؛ ولما كان القرآن هو المهيمن علی سائر الكتب ، كان على اليهود ومتأخري النصارى من بعدهم الأخذ بأحد الخيارين إما الدخول في الإسلام وإما التمسك بباطلهم.

ولما كانت فطرتهم المعاندة وديدنهم العدواة والبغضاء للحق فقد اختاروا معاندة الإسلام رغم معرفتهم بأنه الحق؛ كما قال تعالى عنهم : (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). (١)

ولكن اختلفت حيلهم التي لجأوا إليها في إنكار النسخ ولم يتفقوا إلا على أمر واحد هو أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم تنسخ رسالة موسى عليه السلام حسب زعمهم وتبعا لاختلافهم فيما التجأوا إليه من الحيل لتحقيق هدفهم، فقد تباينت مواقفهم من النسخ فانقسموا إلى أربع فرق : الشمعونية ، والعنانية ، والعيسوية ، والسامرة. (٢)

طائفة الشمعونية


اشتهرت هذه الطائفة باسم الشمعونية نسبة إلى شمعون يعقوب. (۳)

وقد نسب كل من الآمدي وأبو اسحاق الشيرازي الشافعي، وأبو الحسين البصري المعتزلي، والغزالي، والبزدوی الحنفي، وسائر الأصوليين إلى هذه الطائفة إنكار النسخ عقلا وسمعا.

وخالفهم الباقلاني المالكي الأشعري فعكس الأمر ونسب الإنكار العقلي والسمعي إلى طائفة العنانية والإنكار السمعي فقط إلى الشمعونية .

فقال: (وقد افترقت اليهود في الأصل فرقتين فزعمت الشمعونية منهم أن نسخ الشرائع وإرسال نبي بعد موسی بنسخ شريعته جائز من طريق العقل.

وأنهم إنما منعوا نسخ شريعتهم على يد نبي بعد نبيهم من جهة توقيف الله، جل اسمه، في التوراة وعلى لسان موسى عليه السلام، أنه لا ينسخها ولا يبعث نبي بتبديلها بألفاظ سنذكر بعضها.

وزعمت العنانية منهم أن نسخ الشرائع محال من جهة العقلي أن السمع أيضا قد ورد بتأکید ما في العقل من ذلك). (٤)

والصحيح أن طائفة الشمعونية تمنع النسخ عقلا و شرعا على ما قرره سائر الأصوليين حتى يقوم الدليل على غيره .

طائفة العنانية


واشتهرت بهذا الاسم نسبة إلى عنان ابن داود؛ وترى هذه الفرقة أن النسخ جائز عقلا إلا أنه لا يجوز سمعا.

طائفة العيسوية


اشتهرت بهذا الاسم نسبة إلى أبی عیسی اسحاق بن يعقوب الأصفهاني. (٥)

وتری هذه الفرقة أن النسخ جائز عقلا وسمعا وقد وقع بالعقل ويعترفون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأن التوراة بشرت بمجيئه ولأن الله أیده بالمعجزات القاهرة التي لا تنكر . 

ولكنهم يقولون أنه رسول إلى العرب خاصة ليمنعوا بذلك كون رسالته ناسخة لرسالة موسی عليه السلام تكذيباً ومكابرة.

طائفة السامرة


وقد حكى القول بوجود هذه الفرقة صاحب کشف الأسرار و نسبه إلى عبد القاهر البغدادي (٤٢٩هـ) فقال: (وزاد عبد القاهر البغدادي فرقة أخرى ، فقال : فزعمت فرقة أخرى من اليهود أنه يجوز نسخ الشيء بما هو أشد منه وأثقل على جهة العقوبة للمكلفين إذا كانوا لذلك مستحقين). (٦)

فهذه الفرقة تجيز النسخ عقلا وسمعا ولكنها لا تجيز النسخ إلا إلى بدل أثقل على جهة العقوبة للمكلفين إن استحقوا العقوبة. 

شبهات هذه الفرق


شبهات الشمعونية في إنكار النسخ


لهذه الفرقة أربع شبهات في إنكارها للنسخ عقلا وسمعا، وتبع هذه الفرقة في إنکار النسخ عقلا وسمعا نصاری هذا العصر (٧)؛ وهم لا يقلون عن اليهود في حقدهم على الإسلام والمسلمين . 

 قال الله عز في علاه: (وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ). (٨)

الشبهة الأولى : قالوا : يترتب على فرض وقوع النسخ محال ، وكل ما كان كذلك لم يكن جائزا عقلا فالنسخ لا يجوز عقلا .

قالوا: أنه لو أجاز أن پنسخ الله تعالى شيئا من أحكامه لما خلا ذلك إما أن يكون لحكمة ظهرت له سبحانه لم تكن ظاهره حال الأمر الأول ، وإما أن يكون لغير حكمة.

فإن لم يكن النسخ لحكمة ظهرت له فذلك عبث والعبث على الحكيم محال ، فيستحيل ما يؤدي إليه وهو جواز النسخ . 

وإن كان لحكمة وظهرت له كانت خافية عليه ، تعالی الله عما يقولون علوا كبيرا ، فذلك البداء وهو محال على الله. 

فالنسخ غير جائز لأنه يترتب على جوازه محال . (٩)

الشبهة الثانية :

قالوا : لو جاز النسخ للزم أشد باطلين : إما نسبة الجهل إلى الله سبحانه وتعالى أو تحصيل الحاصل ، وذلك أن الخطاب الذي شرع به الحكم المنسوخ إما أن يكون مؤقتا أو مؤبدا.

فإن كان قد علمه الله تعالى مؤقتا بوقت معين ثم نسخه عند حلول ذلك الوقت ، كان ذلك تحصيلا للحاصل لأن المؤقت ينتهي بانتهاء وقته فلا معنى لانتهائه بالنسخ وتحصيل الحاصل باطل لا يجوز في حق الله تعالى.

وإن كان قد علمه الله تعالى مؤيدا مستمرا فالقول بجواز نسخه يترتب عليه ويلزم منه بالاضافة إلى انقلاب علمه جهلا والجهل عليه محال، أحد المحاذير الآتية :

  • التناقض لأن التأبيد يقتضی بقاء الحكم والنسخ يقتضي زواله فيكون الحكم مؤبدا غیر مؤبد باقيا زائلا وهذا محال فما أدي إليه محال مثله . 
  • تعذر الأخبار بالتأبيد على الله تعالى لأنه ما من حكم مؤبد إلا وهو محتمل للنسخ وذلك باطل لأنه غير متعذر علی الله جلت قدرته فما أدى إليه محال وباطل
  • نفي الوثوق بدلالات الألفاظ والوعد والوعيد لأن كل ذلك محتمل للنسخ كما يؤدي إلى القول بنسخ شريعة الإسلام لجواز نسخ سائر المؤبدات. (١٠)

الشبهة الثالثة :

قالوا: لو جاز النسخ وهو ارتفاع الحكم فإما أن يكون هذا الارتفاع للحكم قبل وجوده ،أو بعده ، أو معه ، وكل ذلك باطل فما أدي إليه باطل مثله ، فلا يجوز النسخ.

وبیان ذلك : أن الحكم المزعوم نسخه لا يمكن ارتفاعه قبل وجوده لأن رفع المعدوم ممتنع .

وأما ارتفاعه بعد وجوده ، فإن كان قد عدم فارتفاعه باطل لأن المعدوم لا يرتفع وإن كان واقعا موجودا فالواقع لا يرتفع .

وإما ارتفاع الحكم المنسوخ مع وجوده بسواء فمحال لأن فيه اجتماع النقيضين وهما النفي والإثبات، في شيء واحد بحيث يكون موجودا معدوما في آن واحد ، واجتماع النقضین محال فيستحيل ما أدى إليه . (١١)

الشبهة الرابعة :

أن النسخ يستلزم اجتماع الضدين واجتماعهما محال فما أدي إليه محال كذلك وبيانه أن الأمر بالشئ يقتضی حسنه كما يقتضي أنه طاعة ومحبوب لله تعالى ، والنهي عن الشيء يقتضي أنه قبيح ومعصية ومكروه عند الله تعالی . 

فجواز النسخ عندهم يستلزم أن يكون الشيء الواحد حسنا قبيحا طاعة معصية محبوبا مكروها في وقت واحد وهو محال فما أدى إليه محال مثله. (١٢)

شبهة العنانیة في إنكار النسخ


لقد منعت هذه الطائفة من وقوع النسخ سمعا مع تسليمها بجوازه عقلا ، فهي بذلك توافق الشمعونية في القول بامتناع وقوع النسخ .

واستمسكوا بشبهات حسبوها أدلة على منع النسخ سمعا ، ومن هذه الشبهات :

أولا: أن التوراة التي أنزلها الله تعالی علی موسی علیه السلام لم تزل محفوظة لديهم منقولة بالتواتر فيما بينهم.

وقد جاء فيها : (هذه شريعة مؤيدة مادام السماوات والأرض) ، وهذا نص يقيد امتناع نسخ شريعتهم.

ثانيا: وجاء في التوراة أيضا : ( التزموا يوم السبت أبدا ) . وهذا نص يقيد أن تعظيم يوم السبت واجب مؤبد ، وأن نسخه يؤدي إلى إبطال حكم أمر الله به على سبيل الدوام والتأبيد ، ونسخ المؤبد ممتنع فيمتنع ما يؤدي إليه فالنسخ غير جائز سمعا !.

شبهات العيسوية في إنكار النسخ


لقد تقدم أنهم يجيزون النسخ عقلا وسمعا ويصدقون برسالة محمد صلی الله عليه وسلم ولكنهم يزعمون أنه رسول العرب خاصة ، وذلك بدلیل قولهم : إن في التوراة قول موسى عليه السلام : (هذه شريعة مؤبدة عليكم ما دامت السماوات والأرض) وأن في التوراة أيضا: (تمسكوا بالسبت أبدا) فدل ذلك على أن شريعة موسى عليه السلام لا تتسخ.

شبهات السامرية


وهؤلاء يقرون النسخ ولكن يشترطون کونه إلى بدل أثقل على جهة العقوبة ، ولكن قولهم هذا لا يتناسب مع عظمة الألوهية فإن الله سبحانه وتعالى كما ينسخ إلى الأثقل ينسخ إلى الأخف رحمة بعباده.

ولكن السامرية لما علموا سماحة الإسلام وأنه يضيع عمن تقدمه من أصحاب الأديان إصرهم والأغلال التي كانت علیهم أرادوا أن يحتالوا على كونه ناسخا لما عندهم من شريعة فقالوا : 

أن النسخ لا يكون إلى الأخف بل إلى الأثقل حتى لا يجوز أن تنسخ شريعتهم التي شدد عليهم فيها بسبب قتلهم للأنبياء وارتدادهم وقولهم على الله مالا يليق بعظمته وجبروته.

ثم إن في قولهم : أن النسخ يكون عقوبة حيلة يلتجئون إليها فيقولون : أنهم مستمسكون بالتوراة مصدقون بما فيها عاملون به فلا يعقل أن نعاقب.

ولكنهم تناسوا تحريفهم للتوراة وكفرهم ولو أنهم آمنوا بالتوراة الحقة لأكلوا من رزق الله من فوقهم ومن تحت أرجلهم. كما قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ). (١٣)

المصادر والمراجع

(١) سورة البقرة، الآية ١٤٦
(٢) الفرق بين الفرق، عبد القاهر البغدادي (۹۱)؛ والملل والنحل، أبو الفتح الشهرستاني (١-١٣٥)
(۳) لم نعثر علی ترجمة لهذا الرجل.
(٤) تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل في الرد على الملحدة المعطلة والرافضة والخوارج والمعتزلة، أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني (٩٦)
(٥) وهو رأس الجالوت تخالف فرقته سائر اليهود في السبت والأعياد وينهون عن أکل الطير والظباء والسمك والجراد ،ويذبحون الحيوان من الفقا ، ويصدقون عیسی عليه السلام في مواعظه واشاراته ويقولون أنه لم يخالف التوراة البتة بل قررها ودعا الناس إليها وهو من بني اسرائيل المتعبدين بالتوراة ومن المستحبين لموسی عليه السلام إلا أنهم لا يقولون بنبوته ورسالته . المصدر: الملل والنحل، الشهرستاني (۱۹۹)
(٥) قيل أن اسمه إلى أبي عيسى إسحاق بن يعقوب الأصفهاني، وقيل: إن اسمه عوفيد الوهيم. أي: عابد الله، كان في زمن المنصور، وابتدأ دعوته في زمن آخر ملوك بني أمية مروان بن محمد الحمار، فاتبعه بشر كثير من اليهود، وادعوا له آيات ومعجزات، وزعموا أنه لما حورب خط على أصحابه خطًّا بعود آس، وقال: أقيموا في هذا الخط، فليس ينالكم عدو بسلاح. فكان العدو يحملون عليهم حتى إذا بلغوا الخط رجعوا عنهم خوفا من طلسم أو عزيمة ربما وضعها، ثم إن أبا عيسى خرج من الخط وحده على فرسه فقاتل وقتل من المسلمين كثيرا، وذهب إلى أصحاب موسى بن عمران الذين هم وراء النهر المرمل ليسمعهم كلام الله. وقيل: إنه لما حارب أصحاب المنصور بالري قتل وقتل أصحابه. زعم أبو عيسى أنه نبي وأنه رسول المسيح المنتظر. وزعم أن للمسيح خمسة من الرسل يأتون قبله واحدا بعد واحد. وزعم أن الله تعالى كلمه وكلفه أن يخلص بني إسرائيل من أيدي الأمم العاصين والملوك الظالمين. وزعم أن المسيح أفضل ولد آدم، وأنه أعلى منزلة من الأنبياء الماضين، وإذ هو رسوله فهو أفضل الكل أيضا، وكان يوجب تصديق المسيح ويعظم دعوة الداعي، ويزعم أيضا أن الداعي هو المسيح. وحرم في كتابه الذبائح كلها، ونهى عن أكل كل ذي روح على الإطلاق طيرا كان أو بهيمة، وأوجب عشر صلوات، وأمر أصحابها بإقامتها وذكر أوقاتها، وخالف اليهود في كثير من أحكام الشريعة الكثيرة المذكورة في التوراة. وتوراة الناس هي التي جمعها ثلاثون حبرا لبعض ملوك الروم حتى لا يتصرف فيها كل جاهل بمواضع أحكامها . المصدر: الملل والنحل للشهرستاني (١-٢٥٧)
(٦) كشف الأسرار شرح أصول البزدوي، علاء الدين البخاري (٣-١٥٧)
(٧) مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبدالعظيم الزرقاني (۲-۸۳)
(٨) سورة البقرة، الآية ١٢٠
(٩) الأحکام في أصول الأحکام. المؤلف. علي بن محمد الآمدی (٢-٢٤٧)
(١٠) كشف الأسرار شرح أصول البزدوي، علاء الدين البخاري الحنفي (٣-١٥٩)
(١١) كشف الأسرار شرح أصول البزدوي، علاء الدين البخاري الحنفي (٣-١٥٩)
(١٢) الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي (المتوفى: 631هـ) المحقق: عبد الرزاق عفيفي، الصفحة ٢-٢٤٧
(١٣) سورة المائدة، الآية ٦٦
أحدث أقدم