الدوافع العقدية لموقف اليهود من النسخ

الدوافع-العقدية-لموقف-اليهود-من-النسخ

الدوافع العقدية لموقف اليهود من النسخ


تعالج هذه المقالة الدوافع العقدية لموقف اليهود من النسخ؛ إذ يلاحظ أنهم ربطوا إنكاره بدعوى أنه يلزم من تجويز النسخ وصف الله تعالى بالجهل والبداء أو العبث والتناقض. 

ولما كان العهد القديم يطفح بالنصوص التي تصف الله تعالى بالبداء والجهل وتجويز العبث والتناقض والتعب (تعالى الله عما يصفون)؛ كان من الضروري البحث عن الدافع الحقيقي الذي يخفونه من وراء إنكاره.

وبناء على ما سبق بيانه، يبدو لنا أن إنكار النسخ عند اليهود لم يكن غاية في حد ذاته وإنما هو وسيلة لغاية ؛ بحيث يمكن أن نجلي دوافع اليهود العقدية من إنكار النسخ بما يأتي: 

أولا: يرى اليهود أن إنكار النسخ عندهم جاء تأكيدا على كمال الله تعالى وتنزيه له عن النقص؛ لأنه بحسب اعتقادهم يستلزم العبث على الحكيم العليم باعتباره تحصيل حاصل لا لمصلحة، أو يستلزم التناقض باجتماع الضدين فينافي الحكمة؛ وهو لا شك نقص يجب تنزيه الله تعالی عنه، وإذا كان النسخ يقتضي هذه المحالات بحسبهم يجب إنكاره. 

ويبقى السؤال قائما: هل صحيح يلزم من النسخ شيء من هذه المحالات على الله تعالی؟.

 ثانيا: تنزيه الله تعالى عن البداء؛ حيث أنكروا النسخ لما يلزم منه وصف الله تعالى بالجهل: إذ يرون أن النسخ يقتضي عدم علمه بالشيء حتى يكون، مما يعني تجويز الجهل عليه، فيلزم وصفه بالبداء، ولا يخفى أن هذا كله يرجع إلى العلم ويستلزم سبق الجهل بعواقب الأمور وعدم العلم بما ستؤول إليه قبل ظهورها، 

وإذا كان الأصل في الإنسان الجهل والنقص وتجدد العلم والتغير فيه، فمن الطبيعي أن يتغير الرأي لديه ويتبدل عليه فتتغير تبعا لذلك أوامره ومراداته؛ لأنها تبع لعلمه. 

أما في حق الله تعالى فقد اتفق العلماء على أن البداء بهذا المعنى مما لا يجوز عليه بحال؛ لأنه وصف يوجب النقص والله تعالى منزه عن جميع النقائص، وعلمه شامل محيط لا يعتريه الجهل والنسيان، جل في علاه عما يصفون. 

ثالثا: إنكار نسخ التوراة وادعاء تأبيدها يحمل في طياته ردا ضمنيا على المسلمين في اعتقادهم أن التوراة الأصلية فقدت ولم تعد موجودة؛ حيث يعتقد المسلمون أن المتداول باسم التوراة إنما هو نسخة محرفة تعرضت للتغيير والتبديل على أيدي البشر ولم تبق على أصلها بل زيد فيها وأنقص منها. 

ويؤكد هذا الدافع الأصلان؛ الثامن والتاسع من الأصول الإيمانية التي وضعها الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون للديانة اليهودية حيث يقول فيهما: (التوراة التي بين أيدينا اليوم هي التي أوحى الله بها إلى موسی)، (ويجب الإيمان بأن جميع ما فيها من الله وليس فيها زيادة من البشر). (١)

رابعا: القول بتأبيد شريعة التوراة وادعاء عدم نسخها، يعني كذلك تبرير وجود العقائد الباطلة والمتناقضة التي تخالف العقل والنقل في نصوصها؛ مما فسح المجال واسعا للشراح والمفسرين بإسقاط رؤيتهم الدينية الشخصية على نصوص الكتاب المقدس والتلاعب في تفسيرها، وقد كان.

حيث نشأ في الفكر الديني اليهودي ظاهرة تأويل النص الديني تأويلا رمزيا مجازيا في مقابل رفض التفسير الحرفي لنصوص التوراة، معتبرين أن أي تعارض بين العقل البشري والنص الديني إنما سببه؛ أخذ العبارات بمقتضاها الحرفي الذي هو من خصائص السذج. (٢)

وصاروا يعدون القراءة الحرفية لنصوص العهد القديم في الكتاب المقدس قراءة مرفوضة؛ إذ الهدف ليس تبيان الحقائق بقدر استعمال الاستعارة والتشبيه الذي يجب أن لا يبعد المتعاطي مع النص المقدس في العهد القديم عن الأهداف الأساسية للنص (٣) ، 

ولا أحد يعرف الطريقة التي انتقل بها الوحي من الله إلى النبي إلا النبي نفسه، وبذلك يكون اللفظ عندهم بشريا والمعنى إلهيا، بحيث أعطي الحق للهيئات الدينية أن تقوم بتوجيه نصوص العهد القديم توجيها يخدم أغراضهم وسياساتهم دون الحاجة إلى إنكاره أو إلغائه باعتباره عندهم نصا مقدسا ثبت بالوحي. 

خامسا: ويهدفون من وراء إنكار النسخ كذلك نفي التعارض بين الإيمان بمعجزة موسی عليه السلام وعدم الإيمان بمعجزة النبي صلى الله عليه وسلم؛ رغم ثبوت خرق العادة في المعجزتين، لذلك حاول اليهود التغطية على هذا التناقض بإنكار النسخ؛ ظنا منهم أنه يكفي لتبريره والتسليم به.

قال الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون: (لأننا لا نؤمن بموسى بسبب معجزاته، فلا شيء يجبرنا على إجراء مقارنة بين معجزاته ومعجزات الآخرين، فمرد ثقتنا الراسخة وإيماننا الثابت إلى الأبد بموسى هو حقيقة أن أجدادنا إضافة له أيضا، سمعوا الحديث الإلهي على سيناء...، نحن لا نصدق عقائد من يصنع المعجزات، بالطريقة ذاتها التي نثق بها بحقيقة موسی معلمنا، ولا مجال للمقارنة بينهما. (٤)

ولا ندري أي ثقة بدعوة نبي ستبقى، إذا أهمل دليل النبوة وطریق ثبوتها وهي المعجزات، علما بأن المعجزات ليست هي المسلك الوحيد لإثبات النبوة، وأنه لا فرق في قضية العقل بين موسى عليه السلام وغيره من الأنبياء إذا أتى ببرهان، فإذا ثبتت نبوة محمد ﷺ بمثل ما ثبت به نبوات الأنبياء قبله وبأعظم من ذلك.

 يتبين أن التكذيب بنبوة محمد ﷺ مع التصديق بنبوة غيره في غاية التناقض والفساد، وأنه ما من طريق يعلم بها نبوة غيره إلا ونبوته تعلم بمثل تلك الطريق وبأعظم منها، فلو لم تكن نبوته وطريق ثبوتها إلا مثل نبوة غيره وطريق ثبوتها، لوجب التصديق بنبوته كما وجب التصديق بنبوة غيره، فكيف إذا كانت نبوته ﷺ ثابتة من وجوه متعددة بالحس والمعنى؟ ومعجزاته شاهدة على نبوته إلى قيام الساعة. 

سادسا: ويتضمن أيضا إنكار نبوة محمد ﷺ ورسالته والطعن في شريعته؛ مما يعني لديهم التنصل من تبعة طاعته والإيمان بما جاء به؛ الأمر الذي يفسر لماذا ينكرون بشدة ولا يعترفون بالفقرات العديدة من الكتاب المقدس التي تشير إلى نبوة محمد ﷺ، ويعلنون أنها واهية تنطوي على مغالطة كبيرة.

وأن المرتدين من اليهود أنفسهم الذين يخدعون الآخرين بهذه الحجج لا يؤمنون بها، وإنما يفعلون ذلك ويتظاهرون به لكسب الحظوة في أعين الأغيار عن طريق البرهان بأنهم يؤمنون بعبارة القرآن القائلة أن محمدا مذكور في التوراة، وهو أمر بسببه أجبروا على اتهامنا بأننا بدلنا التوراة. (٥)

ولعل هذا ما يمثل موقفا عاما تجاه نبوة محمد ﷺ وشريعته لدى فرق اليهود المتقدمين والمتأخرين على اختلاف مذاهبهم الفكرية والدينية؛ ذلك أن اعترافهم بنبوة محمد ﷺ وعموم رسالته يلزمهم بوجوب طاعته والإقرار بأن شريعته ناسخة لشريعة موسی عليه السلام لذلك رفضوا مبدأ نسخ الشرائع كحقيقة تبين زيفهم وتكشف عن تحريفاتهم وأباطيلهم. (٦)

سابعا: ولا يخفى أن التمسك بأبدية التوراة وإنكار نسخها يهدف كذلك إلى إنكار عموم رسالة محمد ﷺ، والطعن في شريعته وإنكار خلودها ونسخها لغيرها.

إذ يرى بعضهم كما وجدناه من مذهب اليهود العيسوية، الذين قالوا: لا سبيل إلى إنكار نبوته ؛ لأن نبوته ثبتت بالبراهين والمعجزات التي أيده الله تعالى بها، وبشرت التوراة بمجيئه، ولكن أيضا لا سبيل إلى القول بعموم رسالته؛ لأن ذلك يعني الاعتراف بأن شريعته ناسخة لشريعة موسى.

 قال الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون: (ونقول الآن إنه أكد لنا أنه لم تبق في السماء شريعة أخرى يمكن أن تنزل لاحقا، بل لن توجد شريعة إلهية أخرى) (٧)، ويقصد شريعة أخرى غير شريعة موسى عليه السلام.

ولا معنى للاعتراف بنبوته مع إنكار عموم دعوته؛ لأن ذلك تكذيب له ورد للحجج القاطعة التي جاء بها؛ ذلك أن تسليمهم برسالته واعترافهم بأنه نبي مؤيد بالوحي والمعجزات يلزمهم أن يصدقوه بكل ما جاء به ومن ذلك إخباره بعموم دعوته، أما أن يؤمنوا برسالته ثم لا يصدقوه فيما جاء به فذلك تناقض ومكابرة منهم لأنفسهم؛ 

حيث دلت الدلائل العقلية والنقلية على أنه مبعوث إلى الناس كافة، بل إلى الثقلين وليس إلى العرب خاصة، وأنه خاتم النبيين لا نبي بعده، وشريعته خالدة ناسخة لغيرها من الشرائع ولا ناسخ لها، وقد أخبر بذلك بحيث لا يحتمل التأويل وأظهر المعجزة على وفقه، وشهد كتابه المعجز بذلك قطعا. (٨)

ثامنا: إن اعتقاد اليهود بأن توراة موسى التي لا يمكن استبدالها أو تغييرها، يعبر عن بعد اجتماعي سياسي في الديانة اليهودية، ويعد مظهرا من مظاهر صياغة العقيدة اليهودية صياغة أيديولوجية تمثل ترجمة دينية للنزعة العنصرية المتأصلة في نفوس اليهود أينما وجدوا وحيثما كانوا والتي تأبى عليهم الانخراط في المجتمعات التي يعيشون فيها.

والغرض من ذلك الحفاظ على التماسك الداخلي للمجتمع اليهودي والهوية اليهودية التي عمادها الدين؛ حيث يحرصون دائما على خصوصيات تميزهم عن غيرهم.

كما يقول الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون: (إننا لا نتبع شرائع غير اليهود ولا نتشبه بهم في ملبسهم وشعارهم،... ويجب أن يكون الإسرائيلي مختلفا ومميزا عن الآخرين في ملبسه وفي سائر أعماله مثلما هو مختلف عنهم في علمه وآرائه). (٩)

وبذلك، لا يكون اعتقاد اليهود بأبدية التوراة وعدم نسخها مجرد أصل ديني إيماني وحسب، بل هو أصل سیاسي اجتماعي بامتياز، في مواجهة ارتداد اليهود عن دينهم وتأثرهم بالأوساط الثقافية والدينية والفكرية المغايرة لهم في المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها في فترات الشتات.

ويبدو أن اليهود يتقنون فن استغلال الأزمات وتوجيه الأحداث لخدمة عقيدتهم الدينية وإستراتيجياتهم السياسية والاجتماعية، خبروا ذلك منذ وقوعهم في السبي البابلي (الأسْر البابلي أو النَّفي البابلي) وفترات الشتات التي حلت بهم. 

لذلك كانوا يؤكدون لأتباعهم دائما أن ديانتهم هي الحق الثابت الذي لا يتغير، وعليهم التمسك بها وعدم الانفلات منها مهما أجبروا على الارتداد عنها.

ولا شك أنه كان لهذه الأيديولوجية دورها في رفع معنويات اليهود والشد من عزيمتهم، وهو ما كان يعبر عنه فيلسوف اليهود ابن میمون، بقوله: (لا تجعلوا الاضطهادات المتعاقبة أو تسلط العدو عليكم أو ضعف شعبنا يرعبكم فهذه التجارب مصممة لاختبارنا وتنقيتنا بحيث لا يتمسك بديانتنا ويبقى ضمن القطيع إلا القديسين والأتقياء الذين هم من نسل يعقوب). (٩)

وهذا ما يؤكد سعي اليهود جاهدين إلى استثمار الدين استثمارا سياسيا لخدمة يهوديتهم في مواجهة التيارات الفكرية التي تغایر تفكيرهم العقدي أو تختلف معه، والظروف والأحداث التاريخية التي مرت بهم في آن معا. 

والنتيجة التي يريدون أن ينتهوا إليها هي ما دامت شريعة موسى عليه السلام مؤبدة لم تنسخ ولن تنسخ؛ إذا لا يجوز ليهودي أن يلتفت إلى غيرها أو ينفلت منها، وهذا بالنتيجة كذلك يمثل دافع نفسيا يرسخ موقفهم من الآخرين والانغلاق على الذات في التدين؛ فالإله خاص بهم وهم شعبه المختار، ما يكشف عن طبيعة نفسية خاصة من طبائع اليهود المتأصلة فيهم تقوم على تزوير الحقائق وتحريفها.

المصادر والمراجع

(١) كتاب السراج، باب الحصّة للحاخام موسى بن ميمون القرطبيّ (۲۹،۲۸) ورسالته إلى يهود اليمن المعروفة بالرسالة اليمنية (۳۸، ٥٨)
(٢) ينظر: دلالة الحائرين، كتاب من قبل الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون، (۸-۷)؛ وقصة الحضارة، ويل وايريل ديورانت (١٤-۱۲۹-۱۲۷)
(٣) دلالة الحائرين، الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون، (۱۰-۱۱).
(٤) ينظر: الرسالة اليمنية: النزعة الدينية والقومية للفيلسوف موسى بن ميمون، عنوان: (موسی ونبوته)، ص ٥٥-٥٦
(٥) ينظر: الرسالة اليمنية: النزعة الدينية والقومية للفيلسوف موسى بن ميمون، عنوان: النبي محمد، ص ٤٤ -٤٥
(٦) النسخ في القرآن الكريم ( ۱،-۲۸)؛ نظرية النسخ في الشرائع السماوية (۲۸)؛ وشرح، التفتازاني (٢-٤٣)، وكشف الأسرار، علاء الدين البخاري (۳-۲۳۹)
(٧) الرسالة اليمنية: النزعة الدينية والقومية، عنوان: "معايير نبوية"، موسی بن میمون، الرسالة اليمنية، ص ٥٤
(٨) يراجع: شرح المقاصد، التفتازاني (٥-٤٥،٤٦)؛ ومناهل العرفان في علوم القرآن، الزرقاني (۲-۸۱، ۹٥)
(٩) ينظر: سلسلة عالم المعرفة، اليهود في البلاد الإسلامية، أتينجر، صموئيل، ترجمة: د. جمال الرفاعي، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ۱۹۹۰م، ص ٦٤، نقلا عن: موسی بن میمون، تثنية التوراة.
أحدث أقدم