حقيقة موقف اليهود من نسخ الشرائع وحججهم
يؤمن اليهود بأن كتابهم المقدس معصوم ، وثابت إلى الأبد، وغير قابل للنقض، ومع أن هناك بعض الاختلافات بين فرق اليهود وطوائفهم القديمة والمعاصرة في ترتيب أسفار الكتاب المقدس أو الاعتراف بقانونية بعض الأجزاء (١).
لكنهم يجتمعون على أن التوراة كلام الإله كتبها حرفا حرفا وأوحى بها إلى موسى عليه السلام، وأن قيمها خالدة أزلية تنطبق على كل العصور، وأن موسى عليه السلام جاء بشريعة مؤبدة لم تنسخ !.
يقول الفيلسوف اليهودي موسی بن میمون (٦٠٣ هـ): (وكذلك قاعدة شريعتنا أنه لا يكون غيرها أبدا، فلذلك بحسب رأينا لم تكن ثم شريعة ولا تكون غير شريعة واحدة وهي شريعة سيدنا موسى). (٢)
وقال في مقدمة شرحه على المشناة: (القاعدة الثامنة: هي أن التوراة من السماء يعني من عند الله؛ وذلك بأن يعتقد أن جميع هذه التوراة الموجودة بأيدينا يومنا هذا هي التوراة المنزلة على سيدنا موسى، وأنها كلها من العلي القدير أعني أنها وصلت له كلها من قبل الله). (٣)
وقال في القاعدة التاسعة: (النسخ؛ وذلك أن هذه شريعة موسى لا تتسخ ولا تأتي شريعة من قبل الله غيرها ولا يزاد فيها ولا ينقص منها لا في النص ولا في التفسير). (٤)
حيث مهد لهذه القواعد بقوله: (أصول شريعتنا وقواعدها ثلاث عشرة قاعدة) (٥)، ثم عقب عليها بعد تمامها بقوله: (وإذا اختلت للشخص اليهودي قاعدة من هذه القواعد فقد خرج من الأمة وكفر بالأصول ويتسمى ملحد وزنديق). (٦)
فاتفق اليهود على شيء واحد : هو أن الشريعة الإسلامية لم تنسخ شريعتهم ، وبنوا على ذلك إنكار وقوع النسخ في الشرائع بوجه عام؛ ولكنهم انقسموا في ذلك إلى فرق ثلاث، لكل منها موقفها الخاص من النسخ :
- الفرقة الأولى: وهم الشمعونية (٧) قالوا: إن النسخ محالا عقلا وسمعا.
- الفرقة الثانية: العنانية (٨) وهؤلاء قالوا بجوازه عقلا وعدم وقوعه سمعا؛ إذ لم يتعد جوازه عندهم الإمكان العقلي فقط، ثم انتقلت آراء العنانية في اليهود القرائين عموما. (٩)
- الفرقة الثالثة: العيسوية (١٠) وقد قالوا بجواز النسخ عقلا ووقوعه سمعا وإن الشريعة الإسلامية جاءت للعرب خاصة، ولم يكن للناس كافة، فلم يبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى بني إسرائيل حتى يلزم نسخ شريعتهم. (١١)
هكذا يتضح أن اليهود لم يتفقوا فيما بينهم على إنكار النسخ ، وأن ما درج عليه المؤلفون في تقرير هذه المسألة ليس صحيحا على إطلاقه ؛ فقد رأينا كيف تجيزه العنانية عقلا، وكيف لا ينكر العيسوية وقوعه، ولكنهم اتفقوا جميعهم مع سائر اليهود على أن شريعة موسى مؤبدة لم تنسخ.
محتجين لما ذهبوا إليه بما يأتي:
الحجة الأولى: قالوا: النسخ مستحيل عقلا من وجوه:
أولا: لأنه إما أن يكون لحكمة أو مصلحة لم تكن ظاهرة له تعالى من قبل ثم ظهرت فيلزم تجويز البداء على الله تعالى، وإما أن يكون لغير حكمة أو مصلحة فيكون عبثا، وكلاهما باطل، فما أدى إليهما وهو القول بجواز النسخ كذلك يكون باطلا. (١٢)
ثانيا: ولأن الله تعالى إما أن يكون قد علم الحكم المنسوخ على أنه مؤبد، ثم صيره غير مستمر، فيلزم من نسخه أحد أمرين باطلين؛ وصفه بالجهل أو التناقض؛ لأن تأبيد الحكم يقتضي بقاءه، ولا ريب أن النسخ ينافيه.
وإما أن يكون علمه مؤقتا فلا حاجة لنسخه؛ لأن المؤقت ينتهي بانتهاء وقته، وعندئين يكون نسخه تحصيل حاصل فيكون عبثا، وكلاهما في حق الله تعالى باطل، فما أدى إليهما كذلك يكون باطلا. (١٣)
ثالثا: ولأن النسخ يستلزم اجتماع الضدين (التحسين والتقبيح)؛ ذلك أن الأمر بالشيء يقتضي أن يكون حسنا وطاعة ومحبوبا لله تعالى، والنهي عنه يقتضي أن يكون قبيحا ومعصية ومكروها له تعالى.
فلو أمر الله بالشيء ثم نهى عنه، أو أمر به بعد النهي عنه، لاجتمعت هذه الصفات المتضادة في الفعل الواحد الذي تعلق به الأمر والنهي، ولو كان كذلك لعد الحق باطلا والباطل حقا، والطاعة معصية والمعصية طاعة . (١٤)
الحجة الثانية: قالوا: موسی عليه السلام نبياً حقا بالإجماع منا ومنكم
- في سفر التثنية: (لا تزيدوا على الكلام الذي أنا أوصيكم به ولا تقصوا منه، لتحفظوا وصايا الرب إلهكم التي أنا أوصيكم بها). (١٥) .
- وبما ورد فيه من قوله: (السرائر للرب إلهنا والمعلنات لنا ولبنينا، إلى الأبد لنعمل بجميع كلمات هذه الشريعة) (١٥).
- وفي سفر إشعيا: (أما كلمة إلهنا فتثبت إلى الأبد). (١٦)
- وجاء في سفر باروخ: (هذا كتاب أوامر الله والشريعة التي إلى الأبد كل من تمسك بها فله الحياة والذين يهملونها يموتون). (١٧) .
وظاهر كلامهم على أنه لا ناسخ لشريعة موسى، ولو قيل بنسخها للزم منه أن يكون كاذبا في خبره، وهو محال.
تتلخص دوافع اليهود لإنكار النسخ بحسب هذه الحجج والشبهات: بتنزيه الله تعالى عن الجهل والبداء والعبث والتناقض، مع التأكيد على أن شريعة التوراة مؤبدة لم تتسخ ولا يجوز ليهودي أن يلتفت إلى غيرها.
والسؤال: هل صحيح أن تجویز نسخ الشرائع يقتضي وصف الله تعالى بما لا يليق بجلاله حتى ننكره؟ وهل شريعة التوراة مؤبدة؟ وماهي الدوافع الحقيقية لموقف اليهود من النسخ ولماذا أنكروه؟.
وأين كانت هذه التوراة التي يتحدثون عنها بأنها متواترة ، وأنها هي التي أنزلت على موسى عليه السلام عندما كان محمد صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الاسلام؟.
المصادر والمراجع
(١) ينظر في ذلك: التوراة، مصطفى محمود ومقارنة الأديان ، اليهودية، الصفحة ۲۳۰ وما بعدها.والأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام (٥)
(٢) دلالة الحائرين، موسی بن میمون ،المعروف أيضا باسم رامبام، بالعبريّة רמב"ם)، تحقيق: حسن آتاي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ص۱۲
(٣) ينظر: مقدمة تفسيره على المشناة المسمى السراج (۲۹،۲۸)
(٤) مقدمة تفسيره على المشناة المسمى السراج (۲٩)
(٥) مقدمة تفسيره على المشناة المسمى السراج۲۰)
(٦) ينظر: تفسير أَبُو عَمْرَان مُوسَى بْن مَيْمُون عن المشناة المسمى كتاب السراج (۳۰-۳۱)
(٧) تنتسب هذه الفرقة إلى زعيمها شمعون بن يعقوب، انقرضت هذه الفرقة ولم تشتهر، لذلك لم أجد لها ترجمة تفصيلية في كتب الفرق والأديان، وإن كانت أفكارها انتقلت إلى غيرهم من فرق اليهود وطوائفهم كما بينت.
(٨) نسبة إلى زعيمها عنان بن داوود أحد علماء اليهود في بغداد في عهد الخليفة المنصور (۷۷٥م)، تخالف فرقته سائر اليهود في السبت والأعياد وينهون عن أكل الطيار والظباء والسمك والجراد، ويصدقون عيسى في مواعظه وإرشاداته، ويقولون : إنه لم يخالف التوراة البتة بل قررها ودعا الناس إليها، انظر: الشهرستانی، الملل والنحل (۲۳۸)
(٩) من فرق اليهود التي اشتهرت في القرن التاسع في العراق ثم انتشرت أفكارها في أنحاء العالم، وسموا بالقرائين؛ لأنهم لا يؤمنون بالشريعة الشفوية (السماعية)، وإنما يؤمنون بالتوراة (المقرأ) فقط، حيث (جعلوا النص المقدس المكتوب (العهد القديم) المرجع الأول والآخر في الأمور الدينية كافة، والمنبع لكل عقيدة وقانون)، انظر: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ( ٥- ۳۳۰)
(١٠) نسبة إلى زعيمها أبي عیسی إسحاق بن يعقوب الأصفهاني، قيل: إن اسمه عوفيد الوهيم، أي: عابد الله، كان في زمن المنصور، وبدأ دعوته في زمن آخر ملوك بني أمية: مروان بن محمد، قال ابن حزم: (يقولون: بنبوة عيسى ابن مريم،... ويقولون: إن محمدا نبي أرسله الله تعالى بشرائع القرآن إلى بني إسماعيل)، انظر: ابن حزم؛ علي بن أحمد ، الفصل في الملل والأهواء والنحل (۱۱۸)؛ والشهرستاني، الملل والنحل (۲-۲۳۹)
(١١) كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي، لعلاء الدين البخاري (۳-۲۳۹)
(۱٢) ينظر: الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، ج۲، ص۸۸؛ والبخاري، كشف الأسرار، ج ۳، ص ۲۳۷. والتفتازاني، شرح المقاصد، ج٥، ص ٤٤
(۱٢) ينظر: الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، ج۲، ص۸۸؛ والبخاري، كشف الأسرار، ج ۳، ص ۲۳۷. والتفتازاني، شرح المقاصد، ج٥، ص ٤٤
(١٣) ينظر:مناهل العرفان في علوم القرآن (۲-۹۰)؛ الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم، ( ۱-۱۱۸)؛ وكشف الأسرار (۳،-۲۳۷)؛ والآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، (۳، -١٤٨)
(١٥) سفر التثنية، الإصحاح (٤)، الفقرة (۲).
(١٥) سفر التثنية، الإصحاح (۲۹)، الفقرة (۲۹).
(١٦) سفر إشعياء الإصحاح (٤٠)، الفقرة (۸)
(١٧) الإصحاح (٤)، الفقرة (١)
(٢) دلالة الحائرين، موسی بن میمون ،المعروف أيضا باسم رامبام، بالعبريّة רמב"ם)، تحقيق: حسن آتاي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ص۱۲
(٣) ينظر: مقدمة تفسيره على المشناة المسمى السراج (۲۹،۲۸)
(٤) مقدمة تفسيره على المشناة المسمى السراج (۲٩)
(٥) مقدمة تفسيره على المشناة المسمى السراج۲۰)
(٦) ينظر: تفسير أَبُو عَمْرَان مُوسَى بْن مَيْمُون عن المشناة المسمى كتاب السراج (۳۰-۳۱)
(٧) تنتسب هذه الفرقة إلى زعيمها شمعون بن يعقوب، انقرضت هذه الفرقة ولم تشتهر، لذلك لم أجد لها ترجمة تفصيلية في كتب الفرق والأديان، وإن كانت أفكارها انتقلت إلى غيرهم من فرق اليهود وطوائفهم كما بينت.
(٨) نسبة إلى زعيمها عنان بن داوود أحد علماء اليهود في بغداد في عهد الخليفة المنصور (۷۷٥م)، تخالف فرقته سائر اليهود في السبت والأعياد وينهون عن أكل الطيار والظباء والسمك والجراد، ويصدقون عيسى في مواعظه وإرشاداته، ويقولون : إنه لم يخالف التوراة البتة بل قررها ودعا الناس إليها، انظر: الشهرستانی، الملل والنحل (۲۳۸)
(٩) من فرق اليهود التي اشتهرت في القرن التاسع في العراق ثم انتشرت أفكارها في أنحاء العالم، وسموا بالقرائين؛ لأنهم لا يؤمنون بالشريعة الشفوية (السماعية)، وإنما يؤمنون بالتوراة (المقرأ) فقط، حيث (جعلوا النص المقدس المكتوب (العهد القديم) المرجع الأول والآخر في الأمور الدينية كافة، والمنبع لكل عقيدة وقانون)، انظر: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ( ٥- ۳۳۰)
(١٠) نسبة إلى زعيمها أبي عیسی إسحاق بن يعقوب الأصفهاني، قيل: إن اسمه عوفيد الوهيم، أي: عابد الله، كان في زمن المنصور، وبدأ دعوته في زمن آخر ملوك بني أمية: مروان بن محمد، قال ابن حزم: (يقولون: بنبوة عيسى ابن مريم،... ويقولون: إن محمدا نبي أرسله الله تعالى بشرائع القرآن إلى بني إسماعيل)، انظر: ابن حزم؛ علي بن أحمد ، الفصل في الملل والأهواء والنحل (۱۱۸)؛ والشهرستاني، الملل والنحل (۲-۲۳۹)
(١١) كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي، لعلاء الدين البخاري (۳-۲۳۹)
(۱٢) ينظر: الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، ج۲، ص۸۸؛ والبخاري، كشف الأسرار، ج ۳، ص ۲۳۷. والتفتازاني، شرح المقاصد، ج٥، ص ٤٤
(۱٢) ينظر: الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، ج۲، ص۸۸؛ والبخاري، كشف الأسرار، ج ۳، ص ۲۳۷. والتفتازاني، شرح المقاصد، ج٥، ص ٤٤
(١٣) ينظر:مناهل العرفان في علوم القرآن (۲-۹۰)؛ الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم، ( ۱-۱۱۸)؛ وكشف الأسرار (۳،-۲۳۷)؛ والآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، (۳، -١٤٨)
(١٥) سفر التثنية، الإصحاح (٤)، الفقرة (۲).
(١٥) سفر التثنية، الإصحاح (۲۹)، الفقرة (۲۹).
(١٦) سفر إشعياء الإصحاح (٤٠)، الفقرة (۸)
(١٧) الإصحاح (٤)، الفقرة (١)