من الذي قال بالبداء
اليهود
يعتبر أول من قال بعقيدة البداء اليهود لعنهم الله الذين ما تركوا صفة نقص إلاّ وصفوا الله تعالى بها.
حيث وصفوه تعالى بالبخـل، فقال تعالى عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}. (١)
كما جعلوا لله تعالى الولد فقال الله تعالـى عنهم : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ) (٢)،
كما طلبوا من موسـى عليـه السـلام عبادة العجل بعد نجاتهم من فرعون وقومه، بل عبدوه عند ذهابه لتلقي الألواح حيث قال تعالى: (وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ). (٣)
كما قالوا أيضا: إن الرب سبحانه نائم لا ينتبه من نومه (٤)؛ ووصفوا الله (تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا) بالجهل حيث زعموا أنه يجب أن توضع له علامة ليستدل بها عليهم حتى لا يهلكهم. (٥)
كما يذكر اليهود أن الله عز في علاه كان يسير أمامهم.
ومن ذلك قولهم في سفر الخروج: (وكان الرب يسير أمامهم نهارا في عمود سحاب ليهديهم في الطريق). (٦)
ويزعم اليهود أنهم رأوا ربهم في الدنيا (٧)، وأن الله تعب من خلق السماوات والأرض فاستراح في اليوم السابع!.(٨)
وبعد هذه الأقوال والأفعال من اليهود ليس غريباً ولا بعيداً أن يقولوا بالبداء؛ وإن الرب تعالى محجور عليه في نسخ الشرائع، فحجروا عليه أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد،
وجعلوا هذه الشبهة الشيطانية ترسا لهم في جحد نبوة محمد رسول الله ﷺ، وقرروا بذلك بأن النسخ يستلزم البداء، وهو على الله محال.
وهذا يتضح مما ورد في توراتهم المحرفة بأن الله تعالى ندم على خلق الإنسان، وأنه لم يكـن يعلم فساده (٩)،
كما أنه وعد موسى بإهلاك قومه ثم ندم بعد ذلك وتراجع عن إهلاكهم. (١٠)
عبد الله بن سبأ اليهودي
وأما بالنسبة لغزو هذه العقيدة الضالة (البداء) لبلاد المسلمين بعد انتشار الإسلام فنعتقد أن وراءها اليهود، ويتضح هذا الدور من خلال النظر إلى الأفكار والمعتقدات التي نشرها رأس الفتنة وموقدها عبد الله بن سبأ اليهودي بين المسلمين،
حيث أظهر إسلامه، وأخذ يتنقل في البلاد الإسلامية فبدأ بالحجاز ثم البصرة فالكوفة والشام ومصر.
وهو أول من حرض الناس على كره عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي يحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد صادفت دعوة ابن سبأ في البصرة مرعىً خصيباً حيث أثر في نفوس الناس فوضع مذهب رجعة محمد رسول الله ﷺ ، ثم مذهب الوصاية بمعنى أنَّ عليًا رضي الله عنه وصي رسول الله ﷺ.
كما روّج بين المسلمين نظرية الحق الإلهي التي أخذها عن الفرس، بمعنى أنّ عليًا هو الخليفة بعد النبي ﷺ ثم النص على إمامته ثم الزعم بأنه لم يمت وإنما رفع إلى السماء ثم أعلن تأليهه. (١١)
فأراد أن يفعل ما فعل شاؤول اليهودي في النصرانية، حيث تنصر وسمى نفسه بولس وحرَّف النصرانية .
المختار بن عبيد الثقفي
ومن المعلوم أن كل عقيدة ضالة تجد لها أتباعاً من شياطين الإنس يروجون لها ومن ذلك عقيدة البداء.
حيث يعتبر المختار الثقفي (٦٧هـ) وفرقته (الكيسانية) أو (المختارية) أول من أظهر القول بالبداء على الله تعالى وأعلن به في عصر الإسلام متبعًا اليهود ومروجًا لأفكار ومعتقدات عبد الله بن سبأ ما ظهر منها وما بطن .
وذلك عندما بعث مصعب بن الزبير جيشاً مجهزاً لغزوه، فأرسل إليه المختار جيشاً بقيادة أحمد بن شميط مؤلفاً من ثلاثة آلاف مقاتل، وقال لهم قد أوحى إليَّ أن الظفر سيكون لكم،
ولما انهزم ابن شميط، بعد المعارك التي دارت بينه وبين مصعب بن الزبير، قال له المختار : (إن ربي قد وعدني النصر ثم بدا له)، وتلا عليه قوله تعالى : {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (١٢)،
وكان في بعض الأحيان يخبر أصحابه بأمور ينسبها إلى الله يستغل بذلك المغفلين والبسطاء من أتباعه.
فإذا انكشف لهم خلاف ما أخبر به، قال لهم: (بدا لربكم)، وأما إن وافق قوله جعل ذلك دليلاً على صدق دعواه.
وكان لا يفرق بين النسخ والبداء حيث قال إذا جاز النسخ في الأحكام جاز البداء في الأخبار. (١٣)
الشيعة الإثني عشرية أو الإمامية
راجت مقالة المختار الثقفي بين الشيعة وأصبحت من عقائدهم، وقال بها الشيعة الإثني عشرية أو الإمامية أو الجعفرية ونسبوها إلى أئمتهم لتأخذ طابع القداسة والثبات حيث ربطوها بمسألة الإمامة.
فظهر القول بها أيام جعفر الصادق (توفي ١٤٨هـ وهو الإمام السادس لدى الشيعة الإثنا عشرية) فقد نص على ابنه إسماعيل من بعده، وقد سبب موت إسماعيل قبل موت أبيه اضطراباً لديهم فنسبوا إلى الصادق قوله : (بدا لله في إسماعيل).
ولم تكن حادثة إسماعيل هي الوحيدة التي عولجت بالبداء، فقد أعد علي الهادي (توفي سنة ٢٥٤ هـ؛ عاشر أئمة الشيعة الإثنا عشرية) ابنه محمداً لتولي الإمامة،
لكنه توفي أيضاً في حياة أبيه فعولج الأمر بالبداء فصارت لابنه الثاني الحسن العسكري (توفي ٢٦٠ هـ، وهو الإمام الحادي عشر للشيعة الإثنا عشرية)، كما عالجوا اختلاف توقيت القائم (ظهور المهدي المنتظر) بالبداء. (١٤)
والذي أرسى أسس هذا المعتقد عند الشيعة الإثني عشرية هو الملقب عندهم بثقة الإسلام وهو شيخهم الكليني (توفي ٣٢٨ أو ٣٢٩هـ) حيث وضع هذا المعتقد في قسم الأصول من الكافي، وجعله ضمن كتاب التوحيد، وخصص له بابا بعنوان (باب البداء).
ثم جاء من بعده ابن بايويه (توفي ٣٨١هـ)، المعروف عندهم بالشيخ الصدوق، وعقد له بابا خاصا بعنوان (باب البداء) وذلك في كتابه الاعتقادات الذي يسمى دين الإمامية، ومثل ذلك فعل في كتاب التوحيد.
الفلاسفة المنتسبين للإسلام
وقد انتقلت هذه العقيدة إلى بعض الفلاسفة المنتسبين للإسلام منهم ابن سينا (٤٢٧هـ) (١٥) الذين صاغوا عبارة البداء بعبارة أن الله تعالى يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات.
إن مضمونها أن زيداً مثلاً، لو أطاع الله تعالى أوعصـاه، لـم يكـن الله عز وجل عالماً بما يتجدد من أحواله، لأنه لا يعرف زيداً بعينه، فإنـه شخص، وأفعاله حادثـة بعد أن لم تكن، وإذا لم يعرف الشخص، لم يعرف أحواله وأفعاله، بل لا يعرف كفر زيد ولا إسلامه، وإنما يعرف كفر الإنسان وإسلامه مطلقاً، كلياً لا مخصوصاً). (١٦)
وهذا القول ظاهر البطلان ويتناقض مع قوله تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (١٧) وقوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) . (١٨)
المصادر والمراجع
(١) سورة المائدة، الآية: ٦٤
(٢) سورة التوبة - الآية ٣٠
(٣) سورة البقرة ، الآية ٩٢
(٤) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، كتاب من قبل ابن قيم الجوزية (٢-٧٢٨، ٧٢٩)
(٥) الكتاب المقدس، سفر الخروج (٣٢-١٤)
(٦) الكتاب المقدس، سفر الخروج (١٣-٢١)
ْ(٧) الكتاب المقدس، سفر الخروج (٢٤-٩)
(٨) الكتاب المقدس، سفر التكوين (٢-٢)، وانظر سفر الخروج (٣١-١٧)
(٩) انظر الكتاب المقدس، سفر التكوين، الإصحاح السادس، فقرة 5، 6 ، 7
(١٠) انظر المصدر السابق؛ وسفر الخروج، الإصحاح ٣٢، الفقرات من ٩ - ١٤
(١١) الملل والنحل (١-١٤٠)؛ وتاريخ الإسلام، مكتبة النهضة المصرية ، ط 9 ، سنة 1979 ، الصفحة (١-٣٦٨)
(١٢) سورة الرعد، الآية: ٣٩
(١٣) انظر : الملل والنحل (١-١١٨،١١٩)؛ والتبصير في الدين للإسفراييني، ص٣٤، ط. الأولى، سنة 1983م، عالم الكتب – بيروت .
(١٤) انظـر : التشيـع بيـن مفهـوم الأئمـة والمفهـوم الفارسي (٢٢٩-٢٣٠) ، ط الأولى، سنة 1988م ، دار عمار للنشر .
(١٥) ومما قاله ابن سينا في كتابه الإشارات والتنبيهـات : (فالواجـب الوجود يجـب ألاّ يكون علمه بالجزئيات علماً زمانياً حتى يدخـل فيـه الآن، والماضي، والمستقبـل) . الإشارات والتنبيهات 3/295، الفصل الحادي والعشرون من النمط السابع، دار المعارف بمصر .
(١٦) تهافت الفلاسفة للغزالي ، (٢١١)، الطبعة السابعة، سنة 1980م
(١٧) سورة غافر؛ الآية: ١٩
(١٨) سورة النحل؛ الآية ١٩
(٢) سورة التوبة - الآية ٣٠
(٣) سورة البقرة ، الآية ٩٢
(٤) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، كتاب من قبل ابن قيم الجوزية (٢-٧٢٨، ٧٢٩)
(٥) الكتاب المقدس، سفر الخروج (٣٢-١٤)
(٦) الكتاب المقدس، سفر الخروج (١٣-٢١)
ْ(٧) الكتاب المقدس، سفر الخروج (٢٤-٩)
(٨) الكتاب المقدس، سفر التكوين (٢-٢)، وانظر سفر الخروج (٣١-١٧)
(٩) انظر الكتاب المقدس، سفر التكوين، الإصحاح السادس، فقرة 5، 6 ، 7
(١٠) انظر المصدر السابق؛ وسفر الخروج، الإصحاح ٣٢، الفقرات من ٩ - ١٤
(١١) الملل والنحل (١-١٤٠)؛ وتاريخ الإسلام، مكتبة النهضة المصرية ، ط 9 ، سنة 1979 ، الصفحة (١-٣٦٨)
(١٢) سورة الرعد، الآية: ٣٩
(١٣) انظر : الملل والنحل (١-١١٨،١١٩)؛ والتبصير في الدين للإسفراييني، ص٣٤، ط. الأولى، سنة 1983م، عالم الكتب – بيروت .
(١٤) انظـر : التشيـع بيـن مفهـوم الأئمـة والمفهـوم الفارسي (٢٢٩-٢٣٠) ، ط الأولى، سنة 1988م ، دار عمار للنشر .
(١٥) ومما قاله ابن سينا في كتابه الإشارات والتنبيهـات : (فالواجـب الوجود يجـب ألاّ يكون علمه بالجزئيات علماً زمانياً حتى يدخـل فيـه الآن، والماضي، والمستقبـل) . الإشارات والتنبيهات 3/295، الفصل الحادي والعشرون من النمط السابع، دار المعارف بمصر .
(١٦) تهافت الفلاسفة للغزالي ، (٢١١)، الطبعة السابعة، سنة 1980م
(١٧) سورة غافر؛ الآية: ١٩
(١٨) سورة النحل؛ الآية ١٩