القرآن الكريم - تفسير - تفسير سورة النور - الآية 31
قوله تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} سورة النور، الآية: ۳۱
قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}،
تفسير وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا
قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}،
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: أي: لا يُظهرْنَ شيئاً من الزينة للأجانب، إلا ما لا يمكن إخفاؤه.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: كالرداء والثياب، يعني: على ما كان يتعاناه نساء العرب، من المِقْنعة التي تُجَلِّل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثياب، فلا حرج عليها فيه؛ لأن هذا لا يمكن إخفاؤه.
ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها، وما لا يمكن إخفاؤه. (1)
والقول الآخر في معنى {مَا ظَهَرَ مِنْهَا}،
والقول الآخر في معنى {مَا ظَهَرَ مِنْهَا}،
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله -: "... عن ابن عباس: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: وجهها وكفيها والخاتم ". (1)
ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفين، وهذا هو المشهور عند الجمهور.
والصواب الذي دلت عليه الأدلة، واختاره المفسرين: تفسير ابن مسعود رضي الله عنه: «إلا ما ظهر منها» بأن ذلك ظاهر الثياب، والرداء. لصحة الآثار المسندة،
ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفين، وهذا هو المشهور عند الجمهور.
والصواب الذي دلت عليه الأدلة، واختاره المفسرين: تفسير ابن مسعود رضي الله عنه: «إلا ما ظهر منها» بأن ذلك ظاهر الثياب، والرداء. لصحة الآثار المسندة،
أما الآثار المنسوبة إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسيره قوله تعالى: "إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا" : بالوجه والكفين، وقوله الآخر: بأن ذلك الكحل والخاتم، فبيَّنوا بأنها جاءت بأسانيد ضعيفة لا يعتمد عليها، ويسقط الاستدلال بها.
ما هو وجه الدلالة في الآية ؟
وجه الدلالة عند القائلين بوجوب تغطية المرأة لوجهها وسائر بدها عن الرجال الأجانب.
دلالة الآية على وجوب تغطية المرأة لوجهها وسائر بدها عن الرجال الأجانب من عدة وجوه، منها:
الوجه الأول: إن الله تعالى نھی عن إبداء الزينة مطلقا إلا ما ظهر منها، وهي التي لا بد أن تظهر مما لا يمكن إخفاؤه، كظاهر الرداء والثياب، أو ما يبدو من أسافل الثياب فيما يظهر بحكم ضرورة حركة أو نحو ذلك،
وهو تفسير ابن مسعود رضي الله عنه (2)، والحسن ، وابن سيرين، والنخعي (3)، ومجاهد (4) وغيرهم.
وإلى هذا ذهب الكيا الهراسي الشافعي (5)، والبيضاوي (6)، وابن رجب الحنبلي (7)، وغيرهم.
ولذلك قال تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ ...}الآية، ولم يقل إلا ما أظهرن منها، ثم نهى مرة أخرى عن إبداء الزينة إلا من استثناهم؛
فدل هنا على أن الزينة الثانية: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} غير الزينة الأولى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} التي تظهر لكل أحد ولا يمكن إخفاؤها،
بخلاف الزينة الثانية وهي الزينة الباطنة التي يتزين لها، ولو كانت هذه الزينة جائزة لكل أحد؛ لم يكن للتعميم في الأولى والاستثناء في الثانية فائدة معلومة. (8)
الوجه الثاني: أن الله تعالى أمر المؤمنات بحفظ فروجهن، والأمر بحفظ الفرج أمر به وبما يكون وسيلة إليه، ولا يرتاب عاقل أن من وسائله تغطية الوجه؛ لأن كشفه سبب للنظر إليها وتأمل محاسنها والتلذذ بذلك، ومن ثم إلى الوصول والاتصال،
وفي الحديث: "العينان تزنيان ، وزناهما النظر" إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: "ويصدق ذلك الفرج ، أو يكذبه" (9)، فإذا كان تغطية الوجه من وسائل حفظ الفرج؛ كان مأمورا به؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد». (10)
الوجه الثالث: قوله تعالى : {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ} فإن الخمار ما تُخمًِر به المرأة رأسها وتغطيه به، فإذا كانت مأمورة بأن تضرب بالخمار على جيبها كانت مأمورة بستر وجهها، إما لأنه من لازم ذلك، أو بالقياس، فإنه إذا وجب ستر النحر والصدر كان وجوب ستر الوجه من باب أولى؛ لأنه موضع الجمال والفتنة.
فإن الناس الذين يتطلبون جمال الصورة لا يسألون إلا عن الوجه، ولذلك إذا قالوا فلانة جميلة، لم يفهم من هذا الكلام إلا جمال الوجه؛ فتبين أن الوجه هو موضع الجمال طلبا وخبرا، فإذا كان كذلك فكيف يفهم أن هذه الشريعة الحكيمة تأمر بستر الصدر والنحر ثم ترخص في كشف الوجه؟!. (11)
ودليل ذلك هو فهم الصحابیات رضي الله عنهن وعملهن به. (12)
الوجه الرابع: أن الله تعالى رخص بإبداء الزينة الباطنة للتابعين غير أولي الإربة من الرجال، وللطفل الذي لم يطلع على عورات النساء، فدل هذا على أمرين:
- أحدهما: أن إبداء الزينة الباطنة لا تحل لأحد من الأجانب إلا لهذين الصنفين.
- الثاني: أن علة الحكم ومداره على خوف الفتنة بالمرأة والتعلق بها، ولا ريب أن الوجه تجمع الحسن وموضع الفتنة، فيكون ستره واجبا؛ لئلا يفتتن به أولو الإربة من الرجال. (13)
الوجه الخامس: في قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} نهيت المرأة عن الضرب برجلها فيعلم ما تخفيه من الخلاخيل ونحوها مما تتحلى به ؛ فإذا كانت المرأة منهية عن الضرب بالأرجل خوفا من افتتان الرجل بما يسمع من صوت خلخالها ونحوه دون أن يدري أشابة هي أم عجوز، أشوهاء هي أم حسناء، فأي ذلك أعظم فتنة: أسماع الصوت في هذه الحال، أم النظر إلى وجه سافر جميل يمتلئ شبابا ونضارة وحسنا بما يجلب الفتنة ويدعو إلى النظر إليها؟! أي الفتنتين أعظم وأحق بالستر والإخفاء. (14)
دلالة الآية على عدم وجوب تغطية المرأة لوجهها وكفيها عن الرجال الأجانب في النهي عن إبداء الزينة مطلقا إلا ما ظهر منها، وهو الوجه والكفان، وقيل: الوجه والكفان والخاتم، والسوار، وهو تفسير ابن عباس رضي الله عنه (15)، وعائشة رضي الله عنها (16)، وعطاء، والأوزاعي (17)، وغيرهم.
وإلى هذا ذهب الجصاص الحنفي (18)، وابن العربي المالكي (19)، والقرطبي المالكي (20)، وغيرهم.
وتفسير الصحابي حجة، كما هو معلوم.
المناقشة:
نوقش أصحاب القول الأول: بأن قول ابن مسعود في أن {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} هو الثياب لا معنى له؛ لأنه معلوم أنه ذكر الزينة والمراد العضو الذي عليه الزينة، ألا ترى أن سائر ما تتزين به من الحلي والقلب والخلخال والقلادة يجوز أن تظهرها للرجال إذا لم تكن هي لابستها،
فعلمنا أن المراد موضع الزينة، كما قال في نسق التلاوة بعد هذا: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} والمراد: موضع الزينة، فتأويلها على الثياب لا معنى له؛ إذ كان ما يرى الثياب عليها دون شيء من بدنها كما يراها إذا لم تكن لابستها. (21)
وأجيب: إن الله تعالى قد سمى الثياب زينة (22) فقال: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: ۳۱]، والذي يحتمل من تفسير ابن عباس وغيره أن يكون أي: الوجه والكفان - تفسيرا للزينة التي نهين عن إبدائها (23)،
فيوافق بذلك القول الأول، ويكون الاستثناء فيما لا يمكن إخفاؤه من ظاهر الثياب کالجلباب أو الخمار، أو الملاءة فوق الثياب، وما ظهر من أسافلها.
ومما يدل على ذلك أمور أربعة:
الأمر الأول: باستقراء القرآن، فلفظ الزينة يكثر تكرره في القرآن الكريم مرادا به الزينة الخارجة عن أصل المزين بها، ولا يراد بها بعض أجزاء ذلك الشيء المزين بها:
- كقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]،
- وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: ۳۲]،
- وقوله تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]،
- وقوله تعالى : {ووَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} : ۸)، وغيرها من الآيات،
فلفظ الزينة في هذه الآيات كلها يراد به ما يزين به الشيء وهو ليس من أصل خلقته، وكون هذا المعنى هو الغالب في لفظ الزينة في القرآن؛
يدل على أن لفظ الزينة في محل النزاع يراد به هذا المعنى الذي غلبت إرادته في القرآن الكريم، وهو المعروف في كلام العرب (24)، كقول الشاعر: يأخذن زينتهن أحسن ماترى وإذا عطلن فهن خير عواطل. (25)
و به تعلم أن تفسير الزينة في الآية بالوجه والكفين، فيه نظر؛ لما تقدم. (26)
الأمر الثاني: إن في الآية قرينة تدل على عدم صحة القول بأن المراد بالزينة الظاهرة : الوجه والكفان؛ وذلك أن الزينة في لغة العرب هي ما تتزين به المرأة مما هو خارج عن أصل خلقتها: كالحلي، والحلل؛ فتفسير الزينة ببعض بدن المرأة خلاف ظاهر معنى لفظ الآية، ولا يجوز الحمل عليه إلا بدليل منفصل يجب الرجوع إليه. (27)
الأمر الثالث: عمل عائشة رضي الله عنها بتغطية وجهها، والرواية عنها ذلك قولا، وعملا، وتعليما (28)، وهي ممن روي عنه القول بأن المراد بالآية الوجه والكفان؛ فيدل ذلك على أن المعنى المراد ما بينه من معنى الزينة، وأن المستثنى هو ما لا يمكن إخفاؤه منها أي: ظاهر الرداء والثياب -.
الأمر الرابع: تفسير ابن عباس نفسه، وذلك تفسيره قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ...} الآية [الأحزاب: 56]، قال: «أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة». (29)
ففيها أن الزينة الظاهرة المباح إظهارها من الكحل وخضاب الكف، والخاتم ونحوه من الحلي مما يتزين به هي لمن ذكروا في الآية، فقد قال ابن عباس عنها: «فهذا تظهره في بيتها لمن دخل من الناس عليها» (30)،
فابن عباس لا يفتى بجواز كشف الوجه واليدين مطلقا، وإنما يفتى بجواز كشفهما عند ما دخل عليها في بيتها، ثم المراد بالداخلين في البيت إما أن يكون من أقاربها ما ليس بمحرم بها؛
وقد قال تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور: ۳۱]
وعلى هذا؛ يتأكد أنه لا يصح حمل قول ابن عباس وغيره على أن المراد بقوله: إلا ما ظهر منها بالوجه والكفين لغير المحارم، بل يجب في حقهن الاستتار وتغطية الوجه عن الأجانب كما روي ذلك عن ابن عباس صراحة، وعن غيره من الصحابة والتابعين ممن وافقه في لفظ تفسيره لهذه الآية، وأن المعفو عن إظهاره في الآية هو ظاهر الثياب ونحوها؛ وذلك بالنظر إلى مجموع الأدلة، ومفهوم لغة العرب، وطريقة القرآن، وعمل الصحابيات رضي الله عنهن، ومقاصد الشريعة، والله أعلم.
ونوقش أصحاب القول الثاني: بأنه وعلى التسليم بأن مراد ابن عباس في المستثنى هو الوجه والكفان؛ فعلی احتمال أن الرواية في هذا عن ابن عباس كانت قبل نزول آية الحجاب، كما ذكره شیخ الإسلام ابن تيمية (31)، وكما روي عنه في تفسير آيات سورة الأحزاب -وقد نزلت بعدها- وإنما يؤخذ مجموع قولهم في الباب كما أشرت إلى ذلك سابقا.
وإن لم يسلم بهذا أيضا؛ فإن تفسيره رضي الله عنه "لا يكون حجة يجب قبولها إلا إذا لم يعارضه صحابي آخر، فإن عارضه صحابي آخر؛ أخذ بما ترجحه الأدلة الأخرى".
وابن عباس رضي الله عنهما قد عارض تفسيره ابن مسعود رضي الله عنه، حيث فسر قوله:{ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} بالرداء والثياب وما لابد من ظهوره؛ فوجب طلب الترجيح والعمل بما كان راجحا في تفسيريهما. (32)(33).
ما المراد بالزينة في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}
- القول الأول: على رأي المفسرين أن المراد بالزينة في قوله: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أو المستثنى الوجه والكفًَان.
- القول الثاني: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} من اللباس الذي لابد من ظهوره.
تفسير بعض المفسرين الزينة بأنها الزينة الخلقية التي زين الله بها البدن هل هذا صحيح أو غير صحيح؟
الجواب: غير صحيح، الحاصل أننا نريد أن نضعف أن الزينة التي خلق الله عليها المرأة، والصحيح أن المراد بالزينة: الزينة الخارجية (زينة منفصلة) وهي ما تتزين بها المرأة لا الزينة الخلقية (زينة متصلة) التي خلق الله عليها المرأة، والدليل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}، وفي آخر هذه الآية {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} وقال تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} فكل ما تأمل الزينة وجدها في الزينة الخارجية لا فيما زين الله به المرأة، وعلى هذا يكون الاستثناء عائدا على ما يبدو من الثياب التي لابد من ظهورها وذلك لأنها لو حرم عليها حتى الثياب التي تبدو ولابد من ظهورها لوجب عليها أن تبقى في البيت، إذ لا يمكن تطبيق هدا الأمر إلا بذلك، وهذا أمر لم يكلف الله به.
قال العلامة الشنقيطي - رحمه الله -: « ... والْمُرَادَ بِالزِّينَةِ مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ الْمَرْأَةُ خَارِجًا عَنْ أَصْلٍ خِلْقَتِهَا، وَلَا يَسْتَلْزِمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ رُؤْيَةَ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهَا; كَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمَنْ وَافَقَهُ: إِنَّهَا ظَاهِرُ الثِّيَابِ; لِأَنَّ الثِّيَابَ زِينَةٌ لَهَا خَارِجَةٌ عَنْ أَصْلِ خِلْقَتِهَا، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ بِحُكْمِ الِاضْطِرَارِ، كَمَا تَرَى، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدَنَا، وَأَحْوَطُهَا، وَأَبْعَدُهَا مِنَ الرِّيبَةِ وَأَسْبَابِ الْفِتْنَةِ ... » أضواء البيان، 6/ 197.
إذن تبين أن الراجح في قوله ما ظهر من اللباس يعنى ما مثل به ابن مسعود رضي الله عنه الجلباب والرداء والعباءة وما أشبهه، يعنى الشئ الذي لابد من ظهوره وظهوره ضروري فهو مباح، ويدل لذلك أيضا ما تقدم من الأدلة على أن الزينة لا تستعمل إلا فيما يتزين به الإنسان من لباس وغيره، ويؤيده أيضا أنه قال {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ولوكان المراد الوجه والكفين لقال: {إلا أُظهر منها}، أما ثياب الجمال فهي من الزينة الخفية.
وكذلك الحلي وشبهه مما تتحلى به المرأة لا يبدى إلا ما ذكر الله عز وجل؛ لأن الحُلي يُمكن إخفاؤه ليس كالعباءة والجلباب وشبهها، لكن الآن في الحقيقة تطبيق الأمور الشرعية عند الناس صعب جدا؛ لأن مسألة الحلي موجودة الآن بكثرة في بيوت الناس، مع زوجة الأخ وزوجة العم، فالمشكلة يصعب التحرز منها.
والخلاصة: أن الزينة زينتان: زينة ظاهرة تبدى لكل أحد؛ لأن بُدوها ضرورة لا يمكن التحرز منه، وزينة خفية لا تُبدى إلا لمن استثنى، وعلى هذا المراد بالزينة في قوله {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} غير الزينة الأولى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، فالزينة الأولى عامة وأبيح منها ما ظهر لكل أحد، والثانية ليست عامة بل المراد بها الزينة الخفية أو التي ليس من الضروري أن تظهر. فليس المراد بالزينة في قوله {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} : الوجه والكفين؛ لأن ماعدا الوجه والكفين يجوز إبداؤها للعم والخال؛ لأنه من المحارم، ولكن هذه الزينة زينة اللباس الخفية، يعنى ثياب التجمل، فلا تخرج على عمها وخالها بثياب جميلة، فالزينة ليست التي تعود إلى ما زين الله به المرأة إنما الزينة ما تتزين به المرأة من الثياب، وعلى هذا فلا يجوز للمرأة أن تتجمل عند عمها أو خالها (فالعم لا يجوز له أن ينظر من المرأة ما ينظره الأخ).
ومسألة الزينة لا علاقة لها بمسألة الحجاب، مسألة الحجاب وما يتعلق به في سورة الأحزاب، أما سورة النور فكلها في حفظ الفروج والتزكية والتطهير. (34)
المصادر والمراجع
(1) تفسير القرآن العظيم، 10/ 217.
(2) ينظر: تفسير ابن كثير: (45 / 6 ). تفسير القرطبي: ( ۲۱۲/۱۲ ).
(3) ينظر: تفسير ابن كثير: (6 /45).
(4) ينظر : فتح الباري لابن رجب: (۳۶۶/ ۲ ).
(5) ينظر : أحكام القرآن للكيا الهراسي: ( ۳۱۲/ 4 ).
(6) ينظر: تفسير البيضاوي: (۱۰۶/ 4 ).
(7) ينظر : فتح الباري لابن رجب: (۳۶۶/ ۲ -۳۶۷).
(8) ينظر : رسالة الحجاب لابن عثيمين : (۸).
(9) أخرجه العراقي في تخريج الإحياء: (۱۲۹ / ۳ )، وأصله في صحيح البخاري: (٦۲۶۳)، وصحيح مسلم: (۲۰۰۷).
(10) رسالة الحجاب لابن عثيمين : (6-7).
(11) ينظر : رسالة الحجاب لابن عثيمين : (۷-۸).
(12) سيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله عند الحديث عن الأدلة من السنة النبوية .
(13) ينظر: رسالة الحجاب لابن عثيمين : (۸-۹).
(14) ينظر : رسالة الحجاب لابن عثيمين: (۹- ۱۰).
(15) ينظر: تفسير ابن كثير: (45/ 6 ).
(16) ينظر : تيسير البيان لأحكام القرآن: ( ۷۹۶/٤ ).
(17) ينظر: تفسير ابن كثير: (٦/ ٤٥). نيل المرام: (394).
(18) ينظر : أحكام القرآن للجصاص: (۱۷۲/ ۵ -۱۷۳).
(19) ينظر : أحكام القرآن لابن العربي المالكي: (۳۸۲/۳ ) .
(20) ينظر: تفسير القرطبي: ( ۲۱۳/ ۱۲ ).
(21) أحكام القرآن للجصاص: (۱۷۳/ ۵ ).
(22) ينظر : تيسير البيان لأحكام القرآن : (76/ 4 ).
(23) ينظر : تفسير ابن كثير: (6 /45).
(24) ينظر : أضواء البيان : (٦/ ۲۲۲ - ۲۲۳).
(25) تفسير القرطبي: ( ۲۲۹ / ۱۲ ). أضواء البيان: ( ۲۲۳/۹ ).
(26) ينظر : أضواء البيان: (۲۲۳/ ۹ ).
(27) ينظر : أضواء البيان: ( ۲۲۲/ ۹ ).
(28) وسيأتي بيان ذلك - إن شاء الله - في أدلة الحجاب من السنة النبوية .
(29) أخرجه الطبري في تفسيره: ( ۱۸۱ / ۱۹ ). «أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس؛ وهي صحيفة قواها أحمد، واحتج بما البخاري».
(30) أخرجه البيهقي في سننه : (۱۰۱ / ۷ - ۱۰۲).
(31) ينظر : رسالة الحجاب لابن عثيمين : (۲۹). وسيأتي النقل عن ابن تيمية - إن شاء الله - عند الاستدلال بآية الحجاب .
(32) رسالة الحجاب لابن عثيمين : (۲۹).
(33) أحكام-الحجاب ، ص 17- 21.
(34) تفسير قوله تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} سورة النور، الآية: ۳۱؛ ابن عثيمين.
(34) تفسير قوله تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} سورة النور، الآية: ۳۱؛ ابن عثيمين.