الشرط المحض

الشرط-المحض

أنواع الشروط عند الحنفية تتداخل مع أنواع السبب والعلة؛ والشرط يتنوع لخمسة أنواع عند الحنفية هي: الشرط المحض وهو ما يمتنع به وجود العلة إلا بوجوده، أو شرط في حكم العلل، أو الشرط الذي في حكم السبب، أو شرط اسماً لا حكماً، أو شرط هو بمعنى العلامة.

الشرط المحض


النوع الأول من أنواع الشروط عند الحنفية شرط محض وهو ما يمتنع به وجود العلة. (١)

لعل المراد منه هو: امتناع العلة حقيقة بعد وجودها صورة حتى يوجد الشرط، فإذا وجد الشرط وجدت العلة حقيقة؛ نحو كلمات الشرط كلها، فلو قال المولى لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر، أو إذا دخلت أو متى دخلت، أو كلما دخلت؛ فإن التحرير الذي هو علة يتوقف وجوده على وجود الشرط بعد ما وجدت صورته بكلماته من المولى، وعند وجود الشرط يوجد التحرير حقيقة فيثبت به حكم العتق؛

وعلى هذا العبادات والمعاملات؛ فإن العبادات تعلقت بأسباب جعلها الشارع أسبابا للوجوب، ثم يتوقف ذلك على شرط العلم، أو ما يقوم مقام العلم حتى إن النص النازل قبل على المخاطب به جعل في حقه كأنه غير نازل؛ فلو أن إنسانا أسلم في دار الحرب، ولم يعلم بوجوب العبادات حتى مضى زمان، ثم علم بذلك فإنه لا يلزمه قضاؤها، بالرغم من وجود علة الوجوب، وهي الوقت، لكن الشرط مفقود وهو العلم، فلا يثبت الحكم.

كذلك أركان العبادات والمعاملات تنعدم بانعدام شروطها، فأركان الصلاة مثلا - القيام، والقراءة، والركوع، والسجود، لا يعتبر إلا بعد وجود الشرط وهو النية والطهارة وستر العورة؛ وركن النكاح، الإيجاب والقبول لا يعتبر إلا عند وجود الشرط وهو الإشهاد عليه. (۲)

نلاحظ من خلال ذكر الفقهاء لأمثلة هذا الشرط أنها تتضمن نوعين من الشروط باعتبار مصدر شرطيته: شرط جعلي، وشرط شرعي؛ بل إن بعض المتأخرين من الحنفية لما ذكر الشرط المحض قال: وهو على قسمين: شرط شرعي، وشرط جعلي. (٣)

يُعرف هذا الشرط (شرط محض) بأمرين: بصيغته أو بدلالته : 

أما الصيغة : فأكثر فقهاء الحنفية ذهبوا إلى أنه متى وجدت صيغة الشرط لم تنفك عن معنی الشرط؛ غير أن بعض المتأخرين من الأصوليين والفقهاء من المذهب الحنفي (٤) قالوا: إن صيغة الشرط قد تخلو عن معنى الشرط ؛ وفي هذه الحالة يسمون الشرط شرط تغليب ، على معنى أن ما دخل عليه الشرط لا يخلو في الغالب عن هذا الشرط، وإن كان قد يثبت الحكم بدونه في بعض الأحوال ؛

كما في قوله تعالى: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) (٥) فإنه مذكور على سبيل التغليب والعادة إذ العادة الغالبة أن الإنسان إنما يكاتب العبد إذا رأى فيه خير، لذلك مثل هذا الشرط لا يكون شرطاً حقيقياً بدلیل جواز كتابة العبد الذي لا يعلم فيه خير ، ولو كان شرطاً حقيقياً لم يجز؛

وعلى نفس الغرار قوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٦)، فالشرط في الآية للتغليب والعادة (إذ إن عامة أسفار المؤمنين لم تكن تخلو من خوف) لا أنه شرط حقیقی بدلیل جواز القصر حالة الأمن. (٧)

لكن الأقدمين من الأصوليين والفقهاء المذهب الحنفي لم يرتضوا هذا التأويل لأنه يفضي إلى عدم الفائدة من ذكر الشرط في الآية؛ و کلام الله تعالى منزه عن هذا، وبنوا رأيهم على الآتي:

أما قوله تعالى: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) فالأمر فيها للندب، لأن الأمر إما أن يكون للإيجاب أو للندب، والثاني هو المراد في الآية بدليل ما بعدها قوله تعالى: (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) (٨) فإنه للندب دون الإيجاب؛ وعقد الكتابة مباح قبل أن يعلم فيه الخيرية ، وإنما يصير مندوباً إليه عند العلم بالخيرية فيه، والحاصل أن الندب متعلق بالشرط، فبدت فائدة الشرط من هذا الوجه.

كذلك قوله تعالى:  (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)؛ فإن الشرط فيها ليس على وفاق العادة ، بل هو شرط أريد به حقيقة ما وضع له إذ المراد بالآية قصر الأحوال لا قصر الذات،وقصر الأحوال أن تقصر الصلاة مثلا عن بعض أوصافها، كتخفيف القراءة والركوع والسجود والتسبيح ، وكالإيماء على الدابة ، وترك الاعتدال في الأركان إلى غير ذلك،

يؤكد هذا قوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) (٩)، أي راجلين، أو وحدانا بإيماء، حتى إذا زال الخوف و استقر الأمن صلوا صلاة الأمن المعهودة، دليل ذلك قوله تعالى: (فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (١٠)، وقوله تعالى: (فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۚ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا). (١١) (١٢)

و أما الدلالة : فلا تنفك أيضا عن مدلول الشرط أي معناه ، مثال ذلك: قول الرجل: (المرأة التي أتزوجها أو التي دخلت الدار من نسائي طالق) فإنه يتوقف وجود العلة حقيقة على وجود التزوج والدخول، وذلك لوجود دلالة الشرط فيه ، وهو أنه مذكور على سبيل الوصف للنكرة؛

بخلاف ما لو وقع الوصف في المعين فإنه لا يصلح دلالة، وذلك بأن يقول: (هذه المرأة التي أتزوج طالق ثلاث)، فالوصف هنا لم يجر مجرى الشرط فيلغو، لأن الجزاء إذا أضيف إلى مسمی موصوف، والمسمی معرف بالإشارة، ومعلوم أن الإشارة أعرف المعارف، والمعرف لا يعرف، فيلغو الوصف، فيصادف الإيقاع المرأة الأجنبية، وليس بشيء. (١٣)

المصادر والمراجع

(١) أصول البزدوى (٤-٢٠٢)؛ المغني في أصول الفقه (٣٤٥)؛ المغني في أصول الفقه (٣٤٧)؛ المنار بشرح كشف الأسرار (٢-٤٣٧)
(۲) أصول السرسخي (٢-.٣٢١،٣٢)؛ ميزان الأصول في نتائج العقول، السمرقندي  (٦٢٢)؛ المغني في أصول الفقه (٣٤٥)؛ كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (٤-٢٠٢،٢٠٣)، كشف الأسرار لحافظ الدين النسفي (٢-٤٣٧،٤٣٨)
(٣) التوضيح على التنقيح لصدر الشريعة  لصدر الشريعة والتفتازاني / التوضيح مع التلويح (٢-١٤٥)، مشكاة الأنوار في أصول المنار لابن نجيم الحنفي (۷٤-۳)؛ شرح المنار في أصول الفقه، حاشية الرهاوي (۹۲۲)
(٤) منهم القاضي الإمام أبو زيد الدبوسي، شیخ الحنفية، القاضي أبو زيد، عبد الله بن عمر بن عيسى، الدبوسي، البخاري ، عالم ما وراء النهر وأول من وضع علم الخلاف و أبرزه، وكان من أذكياء الأمة، فقيه، أصولي من أكابر فقهاء الحنفية؛ وله كتاب: تقويم الأدلة، وكتاب الأسرار، وكتاب الأمد الأقصى وأشياء أخرى ، مات ببخاری سنة ٤٠٣ هـ. انظر ترجمته في: الأعلام للزركلي (٢٤٨-٤)؛ الفتح المبين للمراغي (۲۳۹-۱)، الذهبي: شمس الدين محمد بن أحمد بن عمثان، سير أعلام النبلاء ( ٥٢١-١٧).
(٥) سورة النور، الآية (۳۳)
(٦) سورة النساء آية (۱۰۱)
(٧) أصول السرسخي (۳۷۱-۲)، کشف الأسرار لعلاء الدين البخاري (۲۰۳ ، ۲۰٤)، النسفي، کشف الأسرار (٤٤٨-۲)
(٨) سورة النور، الآية (۳۳)
(٩) سورة البقرة ، الآية ٢٣٩
(١٠) البقرة ، الآية ٢٣٩
(١١) النساء - الآية ١٠٣
(١٢) فخر الإسلام البزدوي وعلاء الدين البخاري، أصول البزدوي مع شرحه کشف الأسرار (٤-٢٠٥)؛ أصول السرسخي (٢-٣٢١،٣٢٢)، المغني في أصول الفقه (٣٤٦)؛ کشف الأسرار (٤٤٧-۲ ، ٤٤٨)
(١٣) أصول السرسخي (٢-٣٢٢)، کشف الأسرار لعلاء الدين البخاري (٢-٢٠٦)؛ المغني في أصول الفقه (٣٤٦)
أحدث أقدم