ضوابط المكي

ضوابط-المكي


تمهيد : قبل أن نذكر هذه الضوابط وتلك المميزات يجدر بنا أن نذكر ما الذي يقصد بالضوابط هنا ؟ وما المقصود بالمميزات ؟ والجواب : أن المقصود بالضوابط هنا ما يتعلق بخصائص الألفاظ ، وأما المميزات فإنما يقصد بها ما يتعلق بخصائص الأسلوب والمعاني وأغراض السورة.

وأود التنبيه كذلك إلى أن هذه الضوابط الآتية (منهج قياسي اجتهادي) منها ما هو مسلم ، ومنها ما يحتاج إلى مناقشة ؛ إذ مبناها على الغالب والكثرة ، وإلى هذا أشار الحافظ ابن كثير بقوله : (وقد أجمعوا على سور أنها من المكي، وأخر أنها من المدني ، واختلفوا في أخر ، وأراد بعضهم ضبط ذلك بضوابط في تقييدها عسر ونظر). (۱)

ضوابط المكي


ضوابط المكي : للمكي ضوابط يتميز بها عن القرآن المدني ، وإليك تلك الضوابط :

١- كل سورة فيها (كلا) فهي مكية. (٢) 

وهذه الكلمة قد ذكرت ما بين سورة ( مریم ) وسورة (الهمزة) في خمس عشرة سورة وكلها مكي وورد ذكرها ثلاثا وثلاثين مرة - حسب تتبعي لهذه اللفظة في تلك السور قال السيوطي في الاتقان : قال الدرینی (توفي بعد الخمسمائة): (ومانزلت (كلا) بيثرب فاعلمن ولم تأت في القرآن في نصفه الأعلى).

وحكمة ذلك أن نصف القرآن الآخير نزل أكثره بمكة وأكثرها جبابرة فتكررت فيه على وجه التهديد والتعنيف لهم والإنكار لهم بخلاف النصف الأول وما نزل منه في اليهود لم يحتج إلى إيرادها فيه لذلتهم وضعفهم. (٣)

ومثال لسورة مكية ورد فيها (كلا): قوله تعالى: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)). (٤)

فهذه السورة مكية وردت فيها (كلا) ثلاث مرات على سبيل الزجر والردع.

٢ - كل سورة ورد فيها آية السجدة فهي مكية، وهي في القرآن في خمسة عشر موضعا تبدأ من سورة الاعراف وتنتهي بسورة (العلق) على خلاف في حصرها (٥) ؛ ويستثنى من هذا الضابط سورة الحج عند من يقول إنها مدنية. ومثال لسجدة في سورة مكية قوله تعالى: (وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًا).(٦)

٣ - ومن تلك الضوابط وجود حروف التهجي التي في أوائل السور .

فكل سورة افتتحت بأحرف التهجي فهي مكية سوى سورتي البقرة وآل عمران وفي سورة الرعد خلاف. (٧)

ولقد وردت في تسع و عشرين سورة فبإخراج البقرة وآل عمران یکون عدد السور المكية التي ورد فيها حرف التهجی سبعا وعشرين سورة .

هذا الضابط محمول على الغالب والكثرة ، وفي هذا يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: (وإنما أخرنا الكلام على الحروف المقطعة مع أنه مرت سور مفتتحة بالحروف المقطعة كالبقرة ، وآل عمران، والأعراف ، ويونس، لأن الحروف المقطعة في القرآن المكي غالبا ، والبقرة وآل عمران مدنیتان ، والغالب له الحكم، واخترنا لبيان ذلك سورة هود، لأن دلالتها على المعنى المقصود في غاية الظهور والإيضاح ، لأن قوله تعالى : (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) بعد قوله : (الر) واضح جدا فيما ذكرنا . (٨)

٤ -  كل سورة من المفصل فهي مكية ، فقد أخرج الطبراني بسنده عن ابن مسعود قال : (نزل المفصل بمكة فمكثنا حججا نقرأ لا ينزل غيره). (٩)

ومما يدل على أن هذا الضابط ليس بمطرد أن بعض سور المفصل مدني اتفاقا کسورة النصر ، فإنها كانت من أواخر ما نزل بعد الهجرة ، بل قيل : إنها آخر ما نزل....فالأولى أن يحمل كلام ابن مسعود هذا على الكثرة الغالبة من سور المفصل ، لا على جميع المفصل. (١٠)

٥ - كل سورة فيها (يا أيها الناس) وليس فيها (يا أيها الذين آمنوا) فهي مكية. (١١)

مناقشة هذا الضابط : سبق أن ذكرت طرفا من مناقشة هذا الضابط في مبحث المدني والمكي والفرق بينهما من حيث التعريف، وللمزيد من المناقشة نقول: إن أهل العلم لم يسلموا اطراد هذا الضابط ، قال القرطبي : (وأما من قال: إن قوله : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) مكي حيث وقع فليس بصحيح، فإن البقرة مدنية وفيها قوله : و(يَا أَيُّهَا النَّاسُ) في موضعين). (١٢)

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولكن في السور المدنية خطاب (يأيها الناس) كما في سورة النساء وسورة الحج وهما مدنیتان ، وكذا في البقرة). (١٣)

وللزرکشي كلام نفيس في عدم اطراد هذا الضابط ، فقد قال بعد أن ذكر أثر ابن مسعود الذي بني عليه هذا الضابط : (وهذا القول إن أخذ على إطلاقه ففيه نظر ، فإن سورة البقرة مدنية ، وفيها (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) وفيها : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) وسورة النساء مدنية ، وفيها (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) فإن أراد المفسرون أن الغالب ذلك فهو صحیح). (١٤) 

٦ - كل سورة ورد فيها قصة آدم وإبليس فهي مكية باستثناء سورة البقرة . (١٥)

ولقد وردت قصة آدم وإبليس في خمس آيات من كتاب الله العزيز اختصت سورة الأعراف بأربعة منها والخامسة في سورة (يس) في قوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ). (١٦)

 ۷- كل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم السابقة فهي مكية سوى البقرة. (١٨)

وخلاصة البحث أن هذه الضوابط لم يرد فيها بتاتا ذكر للأحكام الشرعية أو الحدود أو أحكام القتال ومجادلة أهل الكتاب فإن ذلك قد عنيت به السور والآيات المدنية .

المصادر والمراجع

(۱) فضائل القرآن لابن كثير (۱۱)
(٢) انظر هذا الضابط في : الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه، مكي بن أبي طالب القيسي (۱۱۹)، جمال القراء وكمال الإقراء، السخاوي (١-۲۹۷) ، البرهان في علوم القرآن للزرکشي (۱۸۸-۱)، مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور; المؤلف: إبراهيم بن عمر البقاعي الشافعي (۱۹۱-۱)، الإتقان في علوم القرآن (١-١٨)، الزيادة والإحسان في علوم القرآن، ابن عقيلة المكي (۱۲ق/أ).
(٣) الإتقان في علوم القرآن (١-١٨)
(٤) سورة التكاثر، الآية (١-٨)
(٥) قال القرطبی : أولها خاتمة الأعراف وآخرها خاتمة العلق . انظر تفسیرالقرطبی (۷-۳٥۷)
(٦) سورة مريم ، الآية ٥٨
(٧) انظر هذا الضابط في : الإيضاح لمكي (۱۱۹)، جمال القراء (۲٤۷-١)، فضائل القرآن لابن كثير (۱۱)، البرهان للزرکشي (۱۸۹-۱)، مصاعد النظر (۱۹۱-۱)، الإتقان في علوم القرآن (-٥٣۱ ) ، الزيادة والإحسان في علوم القرآن (۱۲ق/أ).
(٨) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشنقيطي (٣-۷)
(٩) مناهل العرفان (۱۹۷-۱)
(١٠) انظر هذين الضابطين في : الإيضاح لمكي (۱۱۹)، جمال القراء (۲۶۷-١)، البرهان للزرکشي (۱۸۹ / ۱)، مصاعد النظر (۱۹۱/۱ )، الإتقان (۰۳ / ۱ ) ، الزيادة والإحسان (۱۲ق/أ)
(١١) انظر هذا الضابط في : فضائل القرآن لأبي عبيد (۲۲۲) ، المصنف لابن أبي شيبة (١٠-٥٢٢) ، مسند البزار (۳۳۹-۹)، المستدرك (۱۸-۳) ، الإيضاح لمكي (١١٤) ، دلائل النبوة للبيهقي (٧-١٩٤)، جمال القراء (١-٢٤٧)، التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي (۸-۱)، فضائل القرآن لابن كثير (۱۱-۱۲) ، البرهان للزرکشي (۱۸۹-۱)، مصاعد النظر (۱۹۱-۱ )، الإتقان (۰۲-۱) ، تناسق الدرر في تناسب السور للسيوطي (٦٣-٦٤) ، الزيادة والإحسان في علوم القرآن (۱۲ق/أ)
(١٢) تفسير القرطبي (١-٥)، والموضعان هما : الآية (۲۱) ، والآية (۱۹۹)
(١٣) مجموع الفتاوى (١٥-١٦٠)
(١٤) البرهان في علوم القرآن للزرکشي (١٩٠-۱)
(١٥) انظر الاتقان (۲-۱۸)
(١٦) سورة يس ، الآية ٦٠

(١٧) انظر هذين الضابطين في : الإيضاح لمكي (۱۱۹)، جمال القراء (۲۶۷/1 )، البرهان للزرکشي (۱۸۹ / ۱ )، مصاعد النظر (۱۹۱/۱)، الإتقان (۰۳/ ۱ ) ، الزيادة والإحسان (۱۲ق/أ)
أحدث أقدم