معنى الإله عند المتكلمين

معنى-الإله-عند-المتكلمين


الأخطاء التي وقع فيها المتكلمون وخالفوا بها صحيح المنقول وصريح المعقول تفسيرهم لمعنى الإله والألوهية حيث فسروها بتفسيرات عقلية معارضة لصحيح المنقول أدّت بهم إلى عدم التمييز بين توحيد الربوبية والألوهية واستبدال الثاني بالأول الذي جعلوه المقصد الأسمى والغاية العظمى من بعثة الرسل.

أما خطؤهم في تصور الفرق بين معنى الإله و الرب : فجعلهما مترادفين ، ففسروا من أجله الإله بأنه (القادر على الاختراع) (١) أو (الصانع القادر المالك) (٢) وقالوا: الألوهية معناها: (الربوبية والصانعية والمالكية) (٣).

وسبب خطئهم في هذا يرجع إلى حمل النصوص والآثار على المصطلحات المستحدثة بعد عهد التنزیل بدهور بعيدا من تخاطب العرب وفهم السلف، واللسان العربي المبين، فتفسير الإله بالصانع المخترع الخالق المالك أو الرب باطل لغة وشرعا، فإن الإله والرب مفهومان متغايران لغة وشرعا.

معنى الإله عند المتكلمين


عرف جمهور المتكلمين الإله: بالصانع القادر على الإختراع، واعتبروا معنى الألوهية القدرة على الإختراع.

وفي ذلك يقول البغدادي: (واختلف أصحابنا في معنى الإله: فمنهم من قال إنه مشتق من الألهية، وهي: قدرته على اختراع الأعيان، وهو اختيار أبي الحسن الأشعري، وعلى هذا يكون الإله مشتق من صفة، وقال القدماء من أصحابنا إنه يستحق هذا الوصف لذاته). (٤)

ونسب الشهرستاني أيضا تفسير الإله بالقادر على الإختراع إلى أبي الحسن الأشعري. (٥)

وذكر أبو بكر الرازي عدة أقوال في أصل اشتقاق لفظ الجلالة (الله) ثم ذكر أن (الإله) من له الألوهية وهي القدرة على الاختراع. (٦) وقال أيضا: (حقيقة الإلهية هي القدرة على الاختراع). (٧)

وفسر التفتازاني (الإله) بالرب الصانع حين قال: (المحدث للعالم هو الله تعالى، أي الذات الواجب للوجود....الواحد يعنى: أن صانع العالم واحد). (٨)

وقال البيهقي: (الله معناه: من له الألوهية: وهي القدرة على اختراع الأعيان، وهذه صفة يستحقها لذاته). (٩)

ويؤكد القشيري اتحاد الألوهية والربوبية وتفسيرهما بالربوبية فحسب، فيقول:

(اختلف أقاويل أهل الحق في ذلك، والكل متقارب يرجع إلى معنى واحد، فمنهم من قال الإله مَن له ـ الإلهية، والإلهية هي القدرة على الاختراع، ومنهم من قال : هو المستحق لأوصاف العلو والرفعة، ومنهم من قال هو من له الخلق والأمر). (١٠)

وقد فسر أهل الكلام كلمة التوحيد بأنها دالة على الربوبية:

قال السنوسي في متنه المشهور في العقيدة (العقائد الكلامية): (ويجمع معاني هذه العقائد كلها (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) إذ معنى الألوهية: استغناء الإله عن كل ما سواه، وافتقار كل ما عداه إليه). (١١)

ويقول أيضا: (وأما افتقار كل ما عداه إليه عز وجل فهو يوجب له تعالى الحياة وعموم القدرة والإرادة، إذ لو انتفى شيء منها لما أمكن أن يوجد شيء من الحوادث فلا يفتقر إليه شيء، كيف وهو الذي يفتقر إليه كل ما سواه، ويوجب أيضا له تعالى الوحدانية إذ لو كان معه تعالى ثان في ألوهيته لما افتقر إليه جل وعلا  شيء للزوم عجزهما حينئذ، كيف وهو الذي يفتقر إليه كل ما سواه). (١٢)

ويظهر من تفسيره لمعنى الافتقار أن ليس مراده الافتقار الاختياري الذي يدخل في معنى العبادة، وإنما مراده الافتقار الضروري الذي يدخل في معنى الربوبية (افتقار المخلوقات لخلقه لها، وربوبيته إياها).

ومما يؤكد التزامهم بأن معنى توحيد الألوهية هو توحيد الربوبية أن القشيري اعترض على تفسير معنى الإله بالمعبود فقال: (ومن الناس من قال إن معنى (الله) المعبود؛ ومنهم من عبر عنه فقال: هو المستحق للعبادة، ومن قال الذي لا تجب العبادة إلا له، قالوا: والدليل على أنه من التأله الذي هو التعبد....وهذا أيضا لا يصح). (١٣)

كما صرح بعض المتأخرين منهم وفي ذلك يقول أحمد بن زيني دحلان: (وأما جعلهم التوحيد نوعين: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فباطل أيضا، إن توحيد الربوبية هو توحيد الألوهية). (١٤)

وقال أبو حامد بن مرزوق: (والقائل ربي الله معترف بكلا التوحيدين معا). (١٥)

ويقول أيضا : (توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية الذي اخترعه ابن تيمية، وزعم أن جميع فرق المسلمين من المتكلمين عبدوا غير الله لجهلهم توحيد الألوهية، ولم يعرفوا من التوحيد إلا توحيد الربوبية وهو الإقرار بأن الله خالق كل شئ، وزعم أن هذا اعترف به المشركون). (١٦)

الرد على المتكلمين ومن وافقهم، وذلك من عدة أوجه:

أحدهما: الفرق بين الإله والرب

الإله في لغة العرب هو بمعنى المعبود المألوه، المستحق للعبادة؛ فتفسير الإله بالقادر على الإختراع هو تفسير باللازم، ومما هو متقرر أن القدرة على الإختراع هي من معاني الربوبية، والرب في لغة العرب بمعنى المالك، السيد، المطاع، فالفرق بين المعنيين ظاهر.

فهذا القول الذي ذكروه غير معروف عند أهل اللغة، ولذلك لم يحتج من قال بهذا القول بشاهد من شواهد لغة العرب، ولا بنقل إمام معتبر من أئمة اللغة.

وبالجملة؛ فإن تفسير (الإله) بالقادر على الإختراع قول محدث مبتدع لا مستند له من نص شرعي ولا نقل لغوي، فهو في غاية الفساد والبطلان.


الثاني: هذا المعنى الذي ذكروه كان مشركو قريش يقرون به في الجملة ولم يكونوا منكرين له، والدليل على ذلك:
  • قوله تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ۚ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ۖ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ). (١٧)
  • (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ  فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ) (١٨)
  • (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (١٩)
  • (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (٢٠)
  • (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ) (٢١)

والآيات في تقرير هذا المعنى كثيرة جدّا.

فلو كان معنى (إله) : القادر على الاختراع، كان معنى (لا إله إلا الله)؛ أي: لا خالق إلا الله، ولا قادر على الاختراع إلا هو، وهذا المعنى كان يقول به المشركون كما تقدم، ولذلك احتج الله عليهم بمعرفتهم هذه بقوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٢) أي: تعلمون أنه لا ربَّ لكم غيره، كما فسره بذلك جمع من المفسرين. (٢٣) 

ولو كان المعنى ما ذكره هؤلاء المتكلمون لما استقام الإنكار على المشركين الذين يقرون بأن الله هو خالقهم وخالق كل شيء، وإنما كان شركهم في الألوهية. (٢٤)

الثالث: وأما استدلالهم لذلك بما جرى بين موسى وفرعون في السؤال عن حقيقة الرب وتفسيرهم لجواب موسى بأن معناه: القادر على الاختراع، فجوابه: أن فرعون كان متظاهرا بإنكار وجود رب العالمين، بل كان يدعى أنه هو رب العالمين بقوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) ولذلك كان سؤاله بقوله: (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ)؟ سؤال عن وصف الرب تعالى، وليس سؤالًا عن الماهية، إذ السؤال عن ماهية الشيء فرع عن الإقرار به، وهو لا يقر بالله متظاهرا، فمن لم يقر بشيء لا يسأل عن ماهيته، فمن سأل عن ماهية الإنسان فقال: ما الإنسان؟ فإن ذلك فرع إقراره بوجوده، وكذلك هنا. (٢٥)

ولذلك، فإن فرعون لم يكن قد سأل عن حقيقة الإلهية وإنما سأل عن وصف الرب الذي يتظاهر بإنكاره،  ويوضح هذا آية أخرى وهي: (فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ)،ومعلوم أن (من) لا يسأل بها عن ماهية الشيء وحقيقته، وإنما حقيقة معنى الإلهية هى: استحقاق الله للعبادة بما له من صفات الكمال وتنزهه عن صفات النقص، وقد دلت الأدلة على ذلك.

وأخيرا : عندما أخرج الكلاميون توحيد العبادة أو توحيد الألوهية تحيروا في الآيات التي تصف المشركين بأنهم الذين عبدوا غير الله تعالى، وتجعل حقيقة التوحيد إفراد العبادة لله وحده، والشرك صرف العبادة لغيره، فحاولوا التوفيق بين هذه الآيات وبين رأيهم فزعموا أن العبادة لا تكون عبادة إلا إذا تضمنت اعتقاد الربوبية لمن صرفت له، وإلا ليست عبادة حتى لو جمعت الذل والخضوع والمحبة والتأله. (٢٦)

المصادر والمراجع

(١) انظر ما ذكره البغدادي في أصول الدين (١٢٣)، وشيخ الإسلام في التدميرية (١٨٩-١٨٠)
(٢) حاشية أحمد الخيالي على شرح التفتازاني للعقائد النسفية لعمر النسفي، مع حاشية رمضان البهشتي على حاشية الخيالي : (٥١)، وحاشية مصلح الدین مصطفى الكستلي على شرح التفتازاني (١٣) ، وحاشية الملا أحمد الجندي عليه (٨٧)
(٣) منهاج السنة : (۲-٦٧،٧٤)، والتدمرية : (۱۷۹-۱۸۱)، وبيان تلبيس الجهمية : (۱-٤٨٧،٤٧٩)، وشرح الطحاوية لابن أبي العز : (۷۹،۸۹،۷۸۰)
(٤) أصول الدين للبغدادي (١٢٣)
(٥) نهاية الإقدام (٩١)، والملل والنحل (١-١٠٠)
(٦) شرح أسماء الله الحسنى (١٢٤)
(٧) شرح الأسماء الحسنى (١٢٣) [دار الكتب العلمية للنشر والتوزيع، ٢٠٠٥م]
(٨) انظر شرح العقائد النسفية للتفتازاني (٥١)، والتوسل بالنبي وجهالة الوهابيين لأبي حامد بن مرزوق (٢٩)
(٩) الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد (٤٩) [ دار الفضيلة، ط١، ١٤٢٠هـ، تحقيق: أحمد بن إبراهيم أبو العينين]
(١٠) شرح الأسماء الحسنى، مخطوط
(١١) العقيدة السنوسية أم البراهين في العقائد (٤٥-٤٦)
(١٢) العقيدة السنوسية أم البراهين في العقائد (٤٥-٤٦)،ونثر الدر النضيد بشرح جوهرة التوحيد لإبراهيم اللقاني (١٥٣-١٥٤)
(١٣) شرح القشيري لأسماء الله الحسنى (٥٥)
(١٤) الدرر السنية (٤٠)
(١٥) التوسل بالنبي وجهالة الوهابيين لأبي حامد بن مرزوق (٢٢)
(١٦) التوسل بالنبي وجهالة الوهابيين لأبي حامد بن مرزوق (٢٠)
(١٧) سورة الزمر، الآية 38
(١٨) سورة العنكبوت، آية ٦١
(١٩) سورة العنكبوت، آية ٦٣
(٢٠) سورة الزخرف، آية ٩
(٢١) سورة الزخرف، آية ٨٧
(٢٢) سورة البقرة، الآية ٢٢
(٢٣) جامع البيان لابن جرير الطبري (١-٣٩٤،٣٩٥)
(٢٤) تيسير العزيز الحميد (٧٦-٨١)
(٢٥) مجموع الفتاوى لابن تيمية (١٦-٣٣٤)
(٢٦) انظر البراهين الساطعة (٣٨١،٣٨٨،٣٨٩،٣٩٠)، وانظر: التوسل بالنبي وجهالة الوهابيين لأبي حامد بن مرزوق (٢٠،٢١،٢٤)، والدرر السنية (٣٤)
أحدث أقدم